الزيارة الميدانية التي قام بها الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس لوزراء يوم17 مارس الماضي إلي منطقة الفسطاط ومشروع المتحف القومي للحضارة, أحيت الأمل لدي الغيورين علي إحياء تراثنا الحضاري متعدد الطبقات في حدوث صحوة جديدة لمشروعات أخري في نفس السياق سبق إقرارها لتقام في ذات المنطقة منذ سنوات, بدون أن تبدأ خطوة جديدة لتنفيذها, وكانت السيدة سوزان مبارك قامت بوضع حجر الأساس لأحدها هناك عام2001, ولايزال من وقتها مجرد حجر وحيد مهجور يستغيث بمن أرساه! هذا المشروع هو إقامة مدينة للحرف الفنية التراثية بالفسطاط, وخصصت لها مساحة15 فدانا بجوار مركز الخزف الذي قامت سيدة مصر الأولي بافتتاحه في ربيع ذلك العام, وأعلن الفنان فاروق حسني وزير الثقافة أمام سيادتها وأمام أجهزة الاعلام أنه تم توفير التمويل اللازم والإعلان عن مسابقة دولية لوضع التصميمات الهندسية للمشروع تمهيدا لبدء تنفيذه, وظلت مساحة الأرض المخصصة له سنوات في انتظار أي بادرة للبداية من دون طائل, ثم تردد أنها أخذت في التآكل تدريجيا لصالح مشروعات أخري, ولانعرف مدي الحقيقة في هذا الزعم, أو ما إذا كان التخصيص للمدينة لايزال قائما من عدمه. إن أهمية هذا المشروع في أنه المقابل الحضاري للمتحف القومي الذي يجري تنفيذه, فإذا كان المفترض للمتحف أن يكون وعاء لنماذج من الآثار المصرية عبر الطبقات الحضارية المتعاقبة لتشير إلي الجذور العميقة للإبداع المصري, تتمثل في أشكال أثرية جامدة تظل شواهد علي ماض عريق ذهب وانقضي, فإن مدينة الحرف التقليدية تقدم هذا التراث الإنساني في تجدده واستمراره حيا ومتفاعلا مع المجتمع, مؤكدا هويتنا الثقافية عبر الإنتاج الحرفي المتميز بأيدي أحفاد من شيدوا تلك الحضارات علي امتداد أرض مصر من شرقها إلي غربها ومن شمالها إلي جنوبها, ولاتزال أقلية من تلك الأيدي تصنع بأناملها الذهبية بعض آيات الجمال من خامات البيئة وفق التقاليد المتوارثة منذ آلاف السنين, لتلبي احتياجات الإنسان في حياته اليومية, من مسكن وملبس ومشرب وقطع أثاث, وأدوات زينة ومفروشات وأوان وسلال عبر عشرات الحرف المتوارثة جيلا بعد جيل, الأمر الذي ينتقل بها من مجرد كماليات ترفيه إلي ضرورات نفعية للحياة اليومية, والذي يعود بعائد اقتصادي مهم للمجتمع, فوق دوره الاجتماعي في تشغيل آلاف الأيدي وإيجاد فرص عمل مستقرة تكفل لها حياة كريمة, ودعنا نعترف بأن أغلب هذا النشاط كان قائما حتي منتصف القرن الماضي, قبل أن تغزو منتجات التكنولوجيا الحديثة المسكن بكل محتوياته, وأن توفر للإنسان كل احتياجاته في جميع طبقات المجتمع, وتحل محل المنتجات اليدوية, في مسيرة تنموية آحادية الجانب, بمعني أنه لم تكن توازيها تنمية ثقافية تتضافر مع التنمية الصناعية والاجتماعية, عن طريق اهتمام الدولة بإقامة المشروعات الصغيرة للمواطنين في مجال منتجات الحرف التقليدية بشتي الأقاليم والمدن الصغيرة والأحياء القديمة بالمدن الكبري, ودعمها بالتمويل والتدريب والتطوير والتسويق كطريق استراتيجي للاستثمار والاستقرار, مثلما فعل الكثير من دول العالم التي جعلت من استثمار الحرف مصدرا رئيسيا للدخل القومي والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي, حتي أصبحت تنافس مشروعات الصناعة الثقيلة والسياحة فيها, علي الرغم من أن ما تملكه مصر من ثروات حرفية لايدانية رصيد تلك الدول في هذا المجال. ومع غياب هذا الفكر التنموي عن تخطيطنا القومي طوال نصف القرن الماض, خسرنا هدفين في وقت واحد بشكل تدريجي وباطراد متسارع خسرنا أولا بناء البنية التحتية للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي, بانصراف ملايين الأسر الفقيرة والأجيال المتوالية من أبنائها عن مواصلة الإنتاج من داخل بيوتهم وقراهم واحيائهم الشعبية, في ورش ومشروعات صغيرة بخامات البيئة قليلة التكلفة كبيرة العائد, وخسرنا ثانيا البنية الثقافية التي تعمق في نفوس تلك الأجيال احترامها لقيمة العمل اليدوي, وللقيم الجمالية في المنتجات الحرفية, حتي أن أبناء الحرفيين باتوا يأنفون من الاشتغال بحرف آبائهم, لشعورهم بالنقص الذي غذته في نفوسهم التحولات القيمية الأخيرة, التي تزن التقدم بميزان المال والوجاهة, ما أدي في النهاية إلي كساد سوق المنتجات الحرفية وتضاؤل العائد المادي للعاملين فيها وجعلهم يحجمون عن توريث خبراتهم لأبنائهم, خوفا عليهم من مواجهة المصير الذي آل إليه حالهم من الفقر والهوان في وطنهم! ولقد أضيف في السنوات الأخيرة عامل جديد زاد من تفاقم الأزمة لمن استمر من هؤلاء الحرفيين متمسكا بقناعاته القديمة, وهو استيراد منتجات حرفية من الصين وغيرها من الدول الآسيوية بكثافة أغرقت الأسواق وحاصرت المنتجات المصرية, برخص أثمانها وإبهار أشكالها, حتي ولو كانت ذات أذواق غريبة عن ثقافتنا, في ظل غياب أية إجراءات حمائية لمنتجنا الوطني, مع تدهور الذوق المصري الذي تآكلت خلفيته الثقافية بتقاليدها الموروثة, وبات المواطن يفضل المنتج الأجنبي لكونه الأرخص والأكثر جاذبية, فغمضا العين عن خاماته الرخيصة من مواد بلاستيكية قليلة القيمة مقارنة بالخامات الطبيعية لمنتجاتنا. كان مشروع مدينة الحرف التقليدية إذن مشروعا متعدد الأبعاد; بين الأبعاد الثقافية والحضارية والجمالية, والأبعاد الاقتصادية والاجتماعية, وذلك بتأسيس مجموعة من المراكز الحرفية لتحتضن عشرات الحرف قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة بسبب الظروف سالفة الذكر, وهي مراكز ذات مهام تدريبية وإنتاجية وتسويقية وتثقيفية, وفوق ذلك فلها مهمة توثيقية بالغة الأهمية عبر ثلاث مجالات, الأول هو مجال البحث والجمع الميداني لأنماط التراث الحرفي وتحليلها وتوثيقها وربطها بالجذور التاريخية العقائدية والثقافية المختلفة, تمهيدا لنشرها كموسوعات علمية تحمي هذه الأنماط من التشويه والاندثار, والمجال الثاني هو إقامة متحف للفنون الشعبية يجمع كل الأنماط والأنساق الثقافية الممتدة عبر القرون من إنتاج أبناء الشعب البسطاء, وهي تشكل ثقافة نوعية تتوازي مع الثقافة الرسمية, ذلك المتحف الذي تفتقر إليه مصر برغم كل تراثها العريق من الفنون الشعبية.. وياله من عار! والمجال الثالث هو إقامة الورش الحرفية بداخل منازل يتم بناؤها بنفس الأنماط والخامات والطرق التي تبني بها في بيئاتها الأصلية, من النوبة حتي سيناء, مرورا بالواحات الخارجة والداخلة وسيوة والفيوم ورشيد, علي أن تنتقل للإقامة والمعيشة بها عائلات من أبناء تلك المناطق لفترات محددة, وان تمارس إنتاجها أمام الزوار وتعرضه عليهم وتبيعه لصالحها وفق نظام معلوم, وهو ما يؤدي إلي بناء ذاكرة حية لكل ملامح هذا التراث, من العمارة الشعبية حتي المنتجات اليدوية, فتضحي المنطقة بمثابة متحف إثنولوجي مفتوح يجتذب السائحين, فوق مزاياها العديدة الأخري بقي أن أقول إن هذا المشروع القومي الذي تقدمت به إلي المؤتمر الاقتصادي الدولي بالقاهرة عام1996 من خلال قطاع العلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة قد تبناه المؤتمر ودعا إلي تنفيذه, بل دعا الهيئات الدولية المختلفة للتعاون مع الحكومة المصرية في ذلك عبر الإنترنت والكتاب الذي أصدره عن فعالياته, وتلقت وزارة الثقافة آنذاك طلبات استفسار من عدة جهات حول ما يمكن أن تقدمه لتنفيذه, فلم تتلق جوابا! إنني أدعو من جديد الفنان فاروق حسني وزير الثقافة لإحياء المشروع بتقديمه إلي رئيس الوزراء, الذي أبدي اهتماما ملحوظا بالنهوض بمنطقة الفسطاط بأبعادها الحضارية والتنموية, أملا في أن يضعه علي رأس أولوياته.