وسط أجواء ثمة من وصفها بالحميمية، جرت زيارة الرئيس فلاديمير بوتين لليابان التى ورغم انها اسفرت عن توقيع ما يقرب من 65 وثيقة، فانها لم تفِ بما كانت تعقده عليها اليابان من آمال تحدوها منذ ما يزيد على السبعين عاما، بشأن استعادة جزر كوريل التى استولت عليها روسيا بموجب نتائج الحرب العالمية الثانية، فضلا عن انها قد تفتح الباب امام مستقبل مناطق اخرى كثيرة كانت حتى الامس القريب تابعة لفنلندا والمانيا، فى اطار ما اعترفت به وثيقة هلسنكى فى عام 1975 حول عدم المساس بحدود ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما قد يحولها من قضية "احادية الابعاد" الى اخرى "متعددة الابعاد". فى ختام زيارته لليابان اعلن الرئيس بوتين عن ضرورة التوقف عما وصفه ب«البنج بونج التاريخى» بين اليابانوروسيا فى اشارة الى مشكلة جزر كوريل العالقة بين البلدين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقال بضرورة ادراك ان المصالح الاساسية للبلدين تتطلب ايجاد تسوية نهائية لهذه المشكلة، وهو ما جرى الاتفاق حوله بين بوتين ومضيفه رئيس الوزراء اليابانى شينزو آبى . فماذا جرى الاتفاق حوله ؟ وكيف يرى الرئيس بوتين السبيل المناسب للازمة القائمة والمشكلة التى حار زعماء البلدين تجاه حلها على مدى ما يقرب من سبعين عاما . وكان بوتين قد حرص على اماطة اللثام تجاه بعض مخاوفه تجاه ضرورات ومتطلبات الامن القومى والمصالح الوطنية لبلاده، فى اشارة الى احتمالات ظهور قواعد امريكية فى منطقة جزر كوريل، قد تغدو قريبة من القواعد العسكرية لروسيا فى فلاديفوستوك؟. زيارة بوتين لطوكيو وناجاتو الوطن الام لرئيس الوزراء الياباني، جاءت ردا على زيارات يابانية كثيرة على مدى ما يزيد عن الاحد عشر عاما، وكانت آخرها زيارة آبى لسوتشى فى مايو الماضي، والتى أَسَرً لمضيفه خلالها بخطته ذات الثمانى نقاط واودعها رؤيته لسبل حل القضية “الازلية” استعادة اليابان لجزر كوريل، مقابل «مشروعات واستثمارات اقتصادية مشتركة هائلة» بعيدا عن اية عقوبات او حصار اقتصادي. ويذكر المراقبون ان بوتين اعلن آنذاك ما يؤكد رفضه لاية «اقتراحات او عطايا» مقابل التفريط فيما يراه حقا لبلاده، وإن أبقى الباب مفتوحا امام اى مفاوضات بين البلدين، فى نفس الوقت الذى كشفت فيه مصادر الكرملين عن استعداد موسكو لبحث كل الجوانب المتعلقة بتسوية الخلافات القائمة، بموجب خطة لم تكشف عنها فى حينه، وأرجأت الاعلان عنها الى حين زيارة بوتين الاخيرة لليابان. وفى جلساته ومباحثاته ولقاءاته الانفرادية التى عقدها فى ناجاتو اولا، ثم فى طوكيو، أماط بوتين اللثام عن بعض ملامح هذه الخطة. فى طوكيو وبعد العديد من اللقاءات والمباحثات التى استمر بعضها لساعات طويلة، خرج الرئيس الروسى ومضيفه الى الصحفيين واعضاء الوفدين والمئات من كبار رجال الاعمال لاعلانهم ببعض ما جرى التطرق اليه والاتفاق على بعض جوانبه. وقف الزعيمان يستعرضان التوقيع على الوثيقة تلو الاخرى، وبلغ عددها رقما كان حتى الامس القريب من ضروب الخيال... ما يزيد على خمس وستين وثيقة، شملت مختلف مجالات التعاون بداية من الطاقة والاستثمار حتى العلوم والبيئة ومختلف مناحى الحياة. استهل رئيس الوزراء اليابانى مؤتمره الصحفى المشترك مع ضيفه الروسى باستعراض بعض ما أدلى به اليه سكان الجزر المتنازع عليها من ذكريات تجمع بين طياتها الكثير من الآلام والآمال .. آلام الابتعاد عن الوطن الأم ، بين أحضان الجزر، والأمل فى غد مشرق، يرجون ان يعيدهم الى مراتع الصبا والشباب. وكان من اللافت أن يختتم رئيس الوزراء اليابانى حديثه بقوله: «إنه يثق فى أحقية موقفه، مثلما يثق فلاديمير (بوتين) فى سلامة رؤاه تجاه هذه القضية»، فيما كشف عن بصيص الامل الذى تبدى للزعيمين فى نهاية النفق خلال لقائهما الاخير فى ناجاتو. وحين جاء دوره لايجاز رؤيته تجاه مباحثات الساعات الطوال فى ناجاتو مع مضيفه الياباني، استهل بوتين حديثه باعادة الحاضرين الى اعلان 1956 الموقع بين اليابان والاتحاد السوفيتى والذى كان ينص على موافقة الاتحاد السوفيتى على اعادة جزيرتين من الجزر الاربع «موضع النزاع»، لكن بعد توقيع معاهدة السلام وانهاء حالة الحرب بين البلدين. لم يكشف بوتين عن ابعاد الكثير مما جرى الاتفاق او الحديث حوله، ويتعلق فى الاساس بجوهر «خطة الثمانى نقاط» التى طرحها رئيس الوزراء اليابانى وتتعلق باعتبار منطقة الجزر «منطقة اقتصادية مشتركة» ذات طبيعة خاصة، دون اية اشارة الى ماهية التبعية القانونية والادارية لهذه المنطقة، ودون الافصاح صراحة عن رفض الجانب اليابانى الموافقة على تطبيق القوانين الروسية فى هذه المنطقة، فى نفس الوقت الذى تناقلت الدوائر الصحفية فيه تصريحات ممثل الكرملين حول ان المنطقة تخضع للقوانين الروسية . لكن ماذا عما قاله الرئيس بوتين حول رؤيته لحل قضية الجزر المتنازع حولها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟ قال بوتين: «إن الادميرال بوتياتين (ولد ايضا فى لينينجراد - المدينة الام للرئيس الروسى بوتين) ابلغ اليابان فى عام 1855 بموافقة الحكومة الروسية والامبراطور، على تسليم جزر ارخبيل كوريل التى كانت مملوكة لروسيا لانها هى التى اكتشفتها، الى اليابان مقابل توقيع معاهدة سلام بين البلدين». ومضى بوتين ليؤكد «ان اليابان لم تكتف فقط بهذه الجزر، حيث قامت بعد انتصارها على روسيا فى حرب 1905، بالاستيلاء على نصف جزيرة سخالين المجاورة، بل حصلت بموجب اتفاقية بورتسموث على حق اجلاء السكان الروس من هذه الاراضى . ولم يمض من الزمن اكثر من اربعين عاما حتى عاد الاتحاد السوفييتي، ليس فقط ليستعيد سخالين، بل وايضا جزر كوريل». ونتوقف هنا لنشير الى بعض التباين فى السرد التاريخي، ومنه ما يقال حول ان الهولنديين هم الذين اكتشفوا هذه الجزر فى منتصف القرن السابع عشر، وان اليابانيين وصلوا الى جزيرة ايتوروب (احدى الجزر الاربع الكبرى فى ارخبيل كوريل)، حيث قاموا بفرض سيطرتهم عليها وهى التى كان يسكنها «اناس يتكلمون الروسية». وبغض النظر عن هذه التفاصيل والمفارقات التاريخية، فان التاريخ الحديث يقول بان الاتحاد السوفيتى استطاع فى الحرب العالمية الثانية استعادة سخالين وجزر كوريل تأكيدا لحقه فى هذه الأراضي، وهو ما تضمنته اتفاقية يالطا فى عام 1945 ضمن النتائج النهائية للحرب التى جرى توقيعها آنذاك مع حليفتيه الولاياتالمتحدة وبريطانيا. ونعود الى بوتين وما قاله حول ما تطورت اليه علاقات البلدين . قال الرئيس الروسى: «إن الاتحاد السوفيتى واليابان كانتا قريبتين فى عام 1956 من حل النزاع، حيث وقع البلدان، بل وصدقا على «اعلان 1956». واضاف: «ان الولاياتالمتحدة وجهت آنذاك على لسان وزير خارجيتها دالاس انذارها الى اليابان حول انه وفى حالة قيام اليابان بما يمس مصالح الولاياتالمتحدة، فانه سوف يكون من حقها وضع جزيرة اوكيناوا بكاملها تحت السيادة الامريكية»، مشيرا الى «ان ذلك يضع روسيا امام ضرورة احترام مصالح كل دول المنطقة بما فيها الولاياتالمتحدة». وتساءل بوتين عما يعنى ذلك؟، مجيبا فى الوقت نفسه على تساؤله بقوله: «ان ذلك يعنى اننا، ونحن الذين نملك قاعدتين كبيرتين لاسطولنا فى هذه المنطقة التى تطل على المحيط الهادئ ان ندرك ماذا يدور حولنا بهذا الشأن. ومن هذا المنطلق، فانه يجب مراعاة ما تتسم به العلاقات اليابانيةالامريكية من طابع خاص، وما يربط اليابانوالولاياتالمتحدة من التزامات تعاقدية فى اطار معاهدة الامن الموقعة بين البلدين». واكد بوتين انه يعلم كيف سيكون عليه الحال، حيث اشار الى انه وحين يتحدث عن المرونة فانه يريد ان يراعى زملاؤه واصدقاؤه اليابانيون كل هذه التفاصيل، وكل القلق الذى ينتاب الجانب الروسي. ومضى ليعود الى اعلان 1956، والذى قال إن الجميع يذكرون ما نص عليه حول ان استعادة اليابان للجزيرتين ستكون بعد توقيع معاهدة السلام، وإن اشار الى “انه من غير المفهوم على اى اساس سيكون ذلك ممكنا”، فى نفس الوقت الذى لم يكشف فيه عن مدى احتمالات تنفيذ روسيا لبنود اعلان 1956 فيما يتعلق باعادة جزيرتين من الجزر الاربع المتنازع حولها، رغم اعترافه لاحقا بان الاعلان سارى المفعول بموجب تصديق البلدين عليه وانه “يتضمن اعادة الجزيرتين، لكن بعد توقيع معاهدة السلام”، ورغم الكشف عن مخاوفه تجاه احتمالات ظهور قواعد امريكية فى المنطقة بموجب ما وصفه ب”الالتزامات التعاقدية لليابان مع الولاياتالمتحدة”. وعاد بوتين ليقول «إنه وفى حال قيام الجانبين بخطوات صحيحة فى اتجاه تطبيق ما طرحه رئيس الوزراء اليابانى من اقتراحات حول اتفاقات حكومية مشتركة بشأن الادارة الاقتصادية والاستثمار فى الجزر، فانها يمكن ان تتحول من «التفاحة المتنازع حولها»، الى «منطقة جاذبة تدعو إلى توحيد جهود البلدين». وخلص بوتين الى دحض ما يقال حول ان الجانب الروسى يسعى الى تحقيق الاتفاقات الاقتصادية دون حل مشكلة الجزر، وان الحقيقة تقول إن موسكو تريد فعلا توقيع معاهدة السلام التى ترى انها سوف تكون اساسا لانطلاقة واعدة للعلاقات بين البلدين بما فى ذلك حل القضايا الخلافية القائمة. وقال بعدم صحة ما يقال ان البلدين لا يستطيعان العيش بدون الاخر، وهو ما يؤكده تاريخ الامس القريب حول انهما عاشا ما يزيد عن السبعين عاما بدون «تعاون عميق»، ويستطيعان ان يواصلا مثل هذا العيش ، لكن ذلك لن يكون صحيحا ، نظرا لان توحيد الجهود والتعاون سوف يحمل الجانبين الى الكثير من الافاق الواعدة التى ينشداها. وتقول الشواهد إن ما طرحه ويطرحه الرئيس بوتين من اقتراحات تتضمن ملامح خطته بشأن حل قضية جزر كوريل، يحمل فى طياته ما يمكن ان يدحض به اية محاولات لاحقة تستهدف المساس بحدود ما بعد الحرب العالمية الثانية التى كانت موسكو وكل البلدان الأوروبية قد وقعتها فى هلسنكى عام 1975 لوضع حد للنزاعات القائمة بهذا الشأن . ويذكر المؤرخون الكثير من القضايا الخلافية التى احتدمت بين البلدان الاوروبية بهذا الشأن، بما فى ذلك ما يتعلق بالاراضى التى استولى عليها الاتحاد السوفيتى فى المناطق الحدودية المتاخمة لفنلندا وتحديدا فى فيبورج وكاريليا، إلى جانب مقاطعة كالينينجراد التى لا ترتبط اليوم باية حدود برية مع روسيا، والمتاخمة لبولندا وليتوانيا، وكانت حتى الأمس القريب أراضى المانية تحمل اسم «كونبيجسبيرج» على ضفاف بحر البلطيق. وختاما نشير الى ان موسكو تسعى بخطوات حثيثة الى تحديد اطر سياساتها فى منطقة اسيا والمحيط الهادئ التى يراها الكرملين الساحة الاستراتيجية الرئيسية فى القرن الحادى والعشرين، على ضوء المتغيرات الاخيرة ومنها نتائج الانتخابات الرئاسية الامريكية وتنامى النفوذ الصينى مما قد ينقل الخلافات المحدودة حول الجزر المتنازع عليها من احادى الابعاد كما نراه اليوم متعدد الابعاد قد يقلص مساحة المناورات بين البلدين ويرغمهما لاحقا الى مراعاة الابعاد الاستراتيجية الجديدة .