الاصطدام المؤلم مع واقع لا يشبع احتياجاتهم، ولا يرضى كبرياءهم. وحتى لا يهربوا إلى المجهول، كان من المهم أن يتعلموا كيفية استنطاق أرضهم العنيدة التى قتلها الجفاف. خاصة بعد فترة حرمان طويلة، احتكرت فيها الطبقة البيضاء الحاكمة الأرض الخصبة. كنت أدرك حجم المسئولية الملقاة على عاتقي، وتقديم كل ما يمكن تقديمه من مساعدة، فى مجال تخصصي، نظريا وعمليا، وكان يقابلون حبى الحقيقى لهم بتفانيهم وإخلاصهم فى العمل. كنت أشفق عليهم من عناء البحث فى الغابة عن الثمار، وألمحهم فى أوقات الراحة يقضمون ثمار المانجو أو الجوافة التى يلتقطونها من على الأشجار حتى قبل نضجها، وكنت أشفق على الأشجار القليلة الباقية التى يستنزفونها من أجل حطب الوقود. ولأغراض أخرى تتعلق بالمبانى والتسييج.. قررت أن أبدأ معهم فى زراعة قطعة الأرض الملحقة ببيتى فى قرية «نانكودو» بمنطقة «رندو»، وهى إحدى القرى النائية شمال ناميبيا، فى منطقة يضيق فيها نهر «أوكافنجو Okavango» الذى يرسم الحدود مع انجولا. بذلوا مجهودا رائعا لانعاش الأرض، تعبوا فى عمل الكومبوست للتربة والسماد لتغذية النبات، جمعوا مخلفات النباتات والحيوانات الصلبة والسائلة، وحفروا حفرا عميقة وألقوا بداخلها المواد العضوية، بعد أن مهدوا الأرض بشكل جيد، ونثروا البذور، كانوا يواظبون على ريِّها فى أوقات راحتهم بخرطوم طويل يوصل المياه من صنبور فى داخل بيتي. كنت أعتبره إنجازا عظيما أن أشجعهم على فلاحة الأرض حتى لا يتركوها ويهاجروا إلى عشوائيات المدن مثلما يفعل كثيرون منهم. وفى المدن يقيمون فى العشوائيات. كانت سعادتهم غامرة وهو يقتطفون ثمار النباتات التى أنبتوها وتابعوا بشغف كبير مراحل نموها. الجفاف فى أفريقيا مشكلة المشاكل. ولقد تصدى لهذه المشكلة العديد من الشخصيات، من أهمهم سيدة كينيا الخضراء «إنجارى ماثاى Wangari Maathai» الحائزة على جائزة نوبل للسلام عام 2004، التى جاء مولدها فى قرية كينية بالقرب من النهر»، وتجرى فى أرضها الخصبة الخضراء قنوات المياه. وكانت مولعة منذ صغرها بالأشجار وكان بالقرب من بيتهم شجرة جميز ضخمة اعتادت جدتها أن تتخاطب معها، وقالت لحفيدتها عن الشجرة بأن لها قدسية الحياة نفسها. ذهبت وانجارى إلى نيروبى للدراسة. ظلت بالعاصمة حتى أنهت تعليمها وأصبحت أستاذة بجامعة نيروبي. عندما زارت قريتها، هالها التبدل المأساوى الذى حل بالأرض, والقنوات، والنهر، والناس. أزيلت الأشجار وجفت الأراضى وردمت القنوات وتعكر النهر بالطين والرمال، وازداد الناس فقرا. كان على النساء قطع مسافات طويلة من أجل جمع الحطب والغصون الجافة التى يستخدمونها كوقود، وللتسييج . بدأت السيدة وانجارى على الفور فى إطلاق مشروعها الرائع «حركة الحزام الأخضر- The green belt movement» عام 1977 برعاية المجلس القومى لنساء كينيا. وهدف المشروع لإعادة زراعة الأشجار التى اختفت بسبب التدهور البيئى والقطع الجائر للأشجار. جمعت نساء القرية واستعرضت أمامهن صور ما كانت عليه الأرض قبل الجفاف، وحفزتهن على استعادتها واسترجاعها حتى تصبح أجمل مما كانت. وبدأت معهن زراعة شتلات الأشجار، وريِّها والاعتناء بها. اتسعت حركتها وامتدت بطول البلاد وعرضها. حتى نجحت فى زراعة 40 مليون شجرة. فى لقطة نادرة لها بعد أن علمت بفوزها بجائزة نوبل، راحت تحفر بيدها فى التربة لتغرز شتلة، قالت معلقة: «عندما تتأمل الشجرة التى تزرعها بعد أن تكبر تشعر بالفخار والأمل وتزداد ثقتك فى نفسك». ولا تتوقف الحرب فى أفريقيا ضد التصحر وضد الجفاف. فنجد البطل هذه المرة فلاح أمى من بوركينا فاسو. فاقت شهرته الآفاق بعد أن قام وحده بإعادة الحياة إلى الأرض التى هجرها أهلها. اسم البطل الذى أوقف وحده تقدم الصحراء «ياكوبا ساوادوجو yacuba Sawadogo» من قرية «جورجا Gourga» شمال غرب بوركينا فاسو. قالوا عنه «ياكوبا فقد عقله» تركوه وحده فى الأرض التى قتلها الجفاف وهاجروا. جلست مشدوها أمام الفيلم التسجيلى الذى يعرض قصة نجاحه. الفيلم الوثائقى بعنوان «الرجل الذى أوقف الصحراء - The man who stopped the desert» ل «مارك دود». بدا الرجل رغم كبر سنه وأخاديد وجهه شابا عملاقا بملامح أفريقية حادة، تنطق بالحكمة والمثابرة والذكاء. دارت الكاميرا معه وهو يحكى بشكل عملى تجربته فى بث الحياة فى الأرض. استعاد تقنية قديمة كان يستخدمها الأسلاف، يسمونها «زاى Zai» تتسم بالبساطة وقلة التكلفة تعتمد على استخدام الكومبوست كغذاء وماء للنبات بوضعه فى حفر صغيرة. تتنقل الكاميرا مع ياكوبا وهو يعلق فأسه على كتفه، ينتقل به من بقعة أرض إلى الأخري، يهوى بالفأس يكسر فى الأرض حتى يصنع حفرة صغيرة يملأها بالكومبوست الذى استحضره من الروث ومن الأوراق الجافة والمواد العضوية الأخري، يضعه ومعه بذور الأشجار. يقول عن الحفر أنها تتصيد المياه خلال موسم الأمطار، وتظل تحتفظ برطوبتها خلال فترة الجفاف. ولكى يستغل أكبر قدر ممكن من مياه الأمطار، كان يسد مجرى انزلاقها بالحجارة، حتى يسمح للتربة بتشربها. وفى مشهد آخر هوى بفأسه على أحد تلال النمل الأبيض، نشاهد النمل وهو يهرب منها لتركز الكاميرا على الممرات والأنفاق العديدة التى حفرها النمل الأبيض داخل عشه. والتى قال عنها ياكوبا إنها تساعده فى عملية الري. بعد 30 عاما رجع الناس إلى قريتهم التى هجروها ليجدونها قرية آخرى غير تلك التى هجروها، ويصير «ياكوبا الذى فقد عقله» «ياكوبا العبقري» الذى حول الأرض القاحلة بمثابرته ولمساته الساحرة إلى جنة خضراء، نمت بها الأشجار الوارفة والسامقة بجانب الذرة العويجة والذرة العادي. يقول بصوته الهادئ الرخيم «الأشجار تضخ الحياة فى العالم ولا ينبغى أبدا قطعها». وكالعدوى الجميلة انتشرت تجربة ياكوبا بين القرى فى بلاده. وبدأ الفلاح الأمى العبقرى الفيلسوف يحكى قصة نجاحه حول العالم بما فيها حضوره مؤتمرا لمحاربة التصحر عام 2012 برعاية الأممالمتحدة. وفى فيلم آخر عن الرجل بعنوان «وما الذى فعله ياكوبا بعد ذلك؟- What Yacouba did next?» يعلق مسئول كبير بالأممالمتحدة عما أنجزه ياكوبا قائلا «من لاشئ نجح الرجل وحده فى أن يفعل ما نحارب من أجل فعله. ولو استخلصنا الدروس المستفادة مما صنعه لحاربنا التصحر». بعد شهرته، انهالت التبرعات على ياكوبا لتشجيع برنامجه التدريبى للفلاحين لإعادة الحياة إلى أراضيهم التى أماتها الجفاف. أما الحزام الأخضر فى موريتانيا فله حكاية أخري، وبالتحديد فى مدينة نواكشوط المحاصرة بين المحيط من ناحية والكثيان الرملية من الناحية الأخري، كانت الرمال تزحف نحو الداخل بمعدل 6 كم سنويا، ولم يكن هناك من وسيلة لإيقاف هذا الزحف المدمر إلا بإقامة الحزام الأخضر حتى 28 كم شمال العاصمة، وقد روعى فى اختيار الأشجار المكونة للحزام أن تكون ملائمة للبيئة الصحراوية، وأقل استهلاكا للمياه. وفى عام 2010 قامت الحكومة بتعويض الفاقد من الأشجار كنتيجة للزحف العمراني، ولكى تحمى الأشجار من التعدى عليها مرة أخري، قامت بتسييجها بالأسلاك الشائكة. وامتدت التجربة بعد ذلك إلى القري. وفى عملية موازية قامت القوات الجوية الموريتانية بعملية إلقاء البذور من الجو فى مناطق عديدة بولاية «التوارزة» التى كان قد ضربها الجفاف، وقد استعادت الأرض اخضرارها. نجحت التجربة بشكل مؤثر حتى أن دولا أفريقية عديدة فى بلدان منطقة الساحل الأفريقى «11 دولة» فكرت فى إقامة الحزام الأخضر. وهذه البلدان هى التى عانت طويلا من التغيرات المناخية، ومن القطع الجائر للأشجار، والرعى الجائر، واستهلاك الأرض الزراعية، وهى العوامل التى ضربت التربة فى مقتل، ليصبح التصحر وتجريف الأرض لقمة سائغة فى أيدى الرياح العاتية، والسيول الجارفة. وكان رئيس بوركينا فاسو السابق «توماس سانكايا» أول من بادر عام 1980 بطرح فكرة إنشاء جدار أفريقيا الأخضر العظيم، ثم أحياها الرئيس النيجيرى السابق «أوبا سانجو» عام 2005 . لكن دول الساحل الإحدى عشر هى التى تبنت الفكرة. وقاموا بتوقيع اتفاقية بهذا الخصوص فى تشاد عام 2010. على أن يمتد الحزام الأخضر من القرن الأفريقى شرقا إلى السنغال غربا بطول 7800 كم وبعرض 15كم. وكان هذا المشروع من المشاريع المهمة التى نوقشت خلال قمة المناخ العالمية عام 2015. وفى قرية باجا Baga شمال توجو، أنشأ «سيدا باوينا Sida Bawena» بمساعدة زوجته «تاييدا Tiyeda» مركزا للتنمية الزراعية لتلقين الفلاحين دروسا فى الكيفية التى يستفيدون بها من أرضهم بتحسين تربتها وزراعتها. وكان سيدا قد ترك قريته للدراسة بالخارج، تماما مثلما حدث مع سيدة كينيا الخضراء. فوجئ عند عودته إلى القرية بعد إنهاء دراسته بتبدل حالها إلى الأسوأ، حيث بارت الأرض وهجرها أهلها. عرضت تجربة سيدا هو وزوجته فى فيلم وثائقى لصانع الأفلام الفرنسى «بريس لين Brice Lain» بعنوان «الغابة الراقصة - The dancing forest»، وحصل الفيلم على جائزة البيئة عام 2009. ويقول «سيدا» عن تجربته: «ليس الفقر فى الأرض» ولكن فى الإنسان». نحن نستطيع بشئ من التفكيرأن نحول الفقر إلى غنى بألا نبخل بجهدنا. بدأت تجربتى بتغيير العقليات حتى اقتنعوا بأن تحسين معيشتهم فى المكان الذى نشأوا فيه أفضل ألف مرة من التخبط فى عشوائيات المدن»، واستعرض الفيلم نساء القرية وهن يقبلن بحماسة منقطعة النظير على استصلاح واستنبات أراضيهم بالخامات البسيطة والمتوافرة فى البيئة. وتنقلت الكاميرا متخللة الأشجار الكثيفة التى تراقصها الرياح . من يصدق أن هذه الغابة الراقصة كانت أرضا قاحلة ؟!