يقول عالم الفيزياء البريطانى ستيفن هوكينج, فى كتابه الأخير «التصميم العظيم» (2010)، إن «الفلسفة قد ماتت», بمعنى أن الفكر النظرى التأملى المجرد لم يعد قادراً على ملاحقة الحقائق المذهلة التى لا تكف عن التدفق والتى توفرها المعرفة العلمية، خاصة فى مجال الفيزياء، أو علم الطبيعة وما تتبعه من رياضيات، بحيث يمكن القول إن النصوص الفلسفية الوحيدة المقبولة اليوم والمعبرة بأكبر قدر من الصدق والدقة عن حال المعرفة الإنسانية المعاصرة، وبأكبر قدر من الشمولية والإيجاز اللذين تتطلبهما النظرة والصياغة الفلسفية، هى المعادلات الرياضية التى تلخص الاكتشافات والقوانين الفيزيائية. بهذا المعنى يكون هوكينج محقاً فى تشخيصه القاسى لمرض المعرفة التأملية اللغوية التى كانت تُسَمَّى قديماً «فلسفة»، بينما لا يمكن اعتبارها الآن، فى أفضل الأحوال، إلا نصوصاً أدبية رومانسية. وهذا الحكم من جانب أحد كبار العلماء الذين يملكون التلسكوبات العملاقة وسفن الفضاء والمعرفة العلمية المتراكمة منذ القرن الخامس عشر حتى الآن، من كوبرنيكوس الذى كشف عن مركزية الشمس حتى نسبية آينشتاين وما تلاها من علم فيزياء الكم - كل هذا أعلن، ومنذ سنين طويلة، موت الفلسفة، كقائد للفكر الإنسانى. ولكن هذا لا يمنع قارئاً لكتب العلوم المبسطة، التى تيسر المعرفة العلمية وتتيحها لغير المتخصصين، أن يقرأ العلم قراءة فلسفية؛ وذلك بالمعنى الجديد المتواضع لكلمة فلسفة: أى نظرة كلية هى أقرب للشعر منها إلى العلم أو إلى ادعاء امتلاك الحقيقة. وستيفن هوكينج من العلماء القلائل الذين يملكون قلماً رشيقاً يعيد كتابة العلم - قدر المستطاع - بأسلوب سهل بسيط وممتع دون التفريط فى علميته، وذلك منذ كتابه الأول «تاريخ موجز للزمان» (1988)، وحتى كتابه الأخير المذكور أعلاه «التصميم العظيم» (2010). ولذلك تصلح كتاباته منصة انطلاق للخيال والتأمل الفلسفى المتواضع العارف قدر نفسه الذى يهوى التحليق مع الالتزام بحقائق العلم، أو، بالأدق، ما استطاع القارئ العام - الهاوى للتحليق فى الكون - فهمه من حقائق العلم. استناداً على هذا، أسمح لنفسى ، كهاوٍ لعلوم الكون والتأمل الفلسفى والتخيل الأدبى، أن أستعرض بعض ما ذكره هوكينج فى كتبه، بعد أن أمرره خلال منشور شعرى، صوفى، فلسفىّ (بالمعنى التأملىّ التقليدى القديم للفلسفة). نبدأ بنشأة الوجود: يتبنى هوكينج النظرة التى اصطلح عليها علماء الفيزياء المعاصرون منذ النصف الثانى للقرن الماضى، وهو إرجاع شكل الوجود الحالى ومادته إلى ما يسمونه ب «الانفجار العظيم» (Big Bang). وحسب قياساتهم لمادة الكون الحالية، يتتبعونها, بآلاتهم الحديثة العملاقة وحاسباتهم وتراكم علمهم ، حتى يصلوا بها إلى ما يمكن تسميته بلغة العصور الوسطى «هَيُولَى» الخَلق الأولى (و«الهَيُولَى» هى المادة الأولية التى صاغ منها الخالق العظيم الموجودات كلها)؛ أما بلغة العلم الحديث، فإن المادة التى نتج عنها «الانفجار العظيم» هى مادة «تحت - ذرية» أقرب إلى الطاقة: بروتونات وإليكترونات منحلة سائبة، والأدهى من ذلك أن تلك الجسيمات متناهية الصغر التى تتكون منها ذرات المادة كما نعرفها، والمشحونة كهربياً بحيث تكون البروتونات موجبة والإلكترونيات سالبة، أقول تلك المادة كان يقابلها - فى الثانية القدرية الكونية التى نتج عنها الانفجار العظيم- مادة مضادة مشحونة كهربياً شحناً عكسياً، بحيث تكون بروتوناتها سالبة وإلكتروناتها موجبة الشحنة، فنتج عن لقاء المادة بالمادة المضادة فى عُشر معشار ثانية مما نقيس من زمن، ذلك الانفجار الرهيب.. الذى هو الأسطورة الحداثية الحديثة التى يفسِّر بها الإنسان، العلمىّ النزعة الآن، وجوده ووجود الكون الذى يحيط به.. وهى الدقة الأولى على أرض المسرح قبل أن ينفتح الستار. ذلك أن القارئ ذا النزعة الأدبية يرى فى هذه النظرية، وفى كل ما كتبه هوكينج فى أعماله العلمية المشوقة، بداية الصراع الكونى الدرامى بين البطل المأساوى أو الهزلىّ ومناهضه أو نقيضه وعكسه؛ أما المتأمل الفلسفى، فله مع السالب والموجب نظرات طويلة، كلية وعميقة.. لكن ذلك وغيره سنتناوله إن شاء الله فى مقالة قادمة. لمزيد من مقالات بهاء جاهين