تحتفل الأوساط الثقافية في مصر والعالم العربي بعد غدا11 ديسمبر(2016) بعيد الميلاد الخامس بعد المائة لنجيب محفوظ, ومشاركة من الأهرام في هذا الاحتفال نتجول في دفتر ذكريات الكاتب الكبير يوسف الشاروني أحد رفقاء رحلة محفوظ الابداعية التي تكشف كل يوم عن أسرار جديدة. في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي, وعقب تخرجي في قسم الفلسفة بكلية آداب القاهرة تعرف جيلي من طلبة الكلية وكلية الحقوق المجاورة: بدر الدين الديب, محمود العالم, توفيق حنا, عباس أحمد, أحمد بهاء الدين, فتحي غانم, مصطفي سويف, فاطمة موسي, لطيفة الزيات, أنجيل بطرس, محمد عودة, حسن فتح الباب.. علي نجيب محفوظ من رواياته التي كانت تنشرها تباعا في ذلك الوقت مكتبة مصر: الروايات التاريخية الثلاث ثم رواياته الاجتماعية: القاهرة الجديدة(1945), خان الخليلي(1946), وزقاق المدق(1947), والسراب(1948), وبداية ونهاية(1949), فانبهرنا بهذا الكاتب الذي يقدم لنا مصر المعاصرة بإيجابياتها وسلبياتها بهذا الأسلوب المتميز. ونمي إلي علم البعض منا أنه يلتقي بأصدقائه صباح كل جمعة بأعلي ما كان يعرف بكازينو أوبرا المطل علي ميدان إبراهيم باشا القريب من ميدان العتبة, فسعينا إلي لقائه واستمتعنا بضحكته المجلجلة وسط أصدقائه المبدعين, أذكر منهم: عبدالحميد جودة السحار( الأديب وأحد الممولين للجنة النشر للجامعيين مع شقيقه سعيد السحار أصحاب مكتبة مصر) والكاتب الفكاهي محمد عفيفي وأنور المعداوي ويوسف السباعي الذي كان يحضر بعد1952 بزيه العسكري وينتحي جانبا بنجيب محفوظ أو عبدالحميد جودة السحار يتناقشان فيما لا نعرف ثم ينصرف. أما أصغر الحاضرين فكان شابا ربما لم يتجاوز سن المراهقة- طالبا في المرحلة الثانوية- ولم تكن المرحلة الإعدادية قد اخترعت بعد يحضر مستمعا بشغف لما يدور من مناقشات يلقي من نكات يقهقه لها نجيب محفوظ قهقهته العالية المرحة- هذا الشاب كان ماهر شفيق فريد الذي أصبح فيما بعد أحد نقادنا ومبدعينا الكبار, كل ما كنا نعرفه عنه وقتئذ أن أباه عالم أثري ومدير المتحف القبطي ومثقف أسهم في الترجمة الأدبية من الإنجليزية إلي العربية. ولا عجب أن كان من أوائل ما نشرت من كتاباتي النقدية دراسة عن رواية السراب نشرتها في مجلة علم النفس التي كان يرأس تحريرها أستاذنا يوسف مراد, وذلك في عدد يناير.1950 وبعد ثورة ضباط الجيش عام1952 فوجئ المجتمعون بضابط برتبة مقدم ينصح بوجوب تقديم طلب بعقد الندوة, ويروي نجيب محفوظ تكملة القصة: طلب مني الضابط أن نطبق قوانين الاجتماعات العامة فنخطر قسم البوليس في يوم عقد الندوة, فإن وافق نقبل بحضور مخبر إلي الاجتماع, وإزاء إصرار أعضاء الندوة علي استمرارها وافقنا علي إخطار القسم كل أسبوع بانتظام ليسجل ما يدور فيها, غير أن المخبر شكا لي من عدم فهمه لما يدور من أحاديث أدبية وثقافية, وما يسمع من أسماء غريبة مثل كافكا وشكسبير وبروست وجويس وغيرهم( ولعلها لون من المقاومة الماكرة التي كان يبديها نجيب محفوظ إزاء هذه الرقابة الكريهة), وطلب معاونتي في كتابة التقرير عما يدور من مناقشات أدبية في الندوة. فكنت أعاونه في نهاية الندوة في كتابة تقريره وكنت أحد شهود ذلك في نهاية إحدي الجلسات ثم وجدت أنني أقضي نصف ساعة في كتابة تقرير للبوليس كل أسبوع عن الندوة. فصممت علي إنهائها. وهكذا انتهت ندوة أوبرا بعد أن استمرت من عام1943 إلي ما بعد ثورة يوليو1952 لسنوات( الأخبار,1017-1988-). وقد تعود الأستاذ نجيب محفوظ إهدائي نسخة من كل إبداع روائي أو قصصي ابتداء من تعارفنا في منتصف الأربعينيات, أي من روايته القاهرة الجديدة, وكانت مكتبة مصر تتولي إرسال إهداءاته وعليها كلمات رقيقة بخطه حتي الطعنة التي تلقاها عام.1994 وما زلت أحتفظ بإبداعات نجيب محفوظ التي تقارب الخمسين في مكتبتي وعليها إهداءاته التي أعتز بها مثل إلي الأستاذ الفاضل الشاروني مع تحيات المؤلف والناشر( لابد أنه الحاج سعيد جودة السحار), وذلك علي رواية السمان والخريف والأستاذ يوسف الشاروني تحية قلبية لرائد من روادنا الكبار في الفكر والفن وصديق كريم علي رواية ثرثرة فوق النيل. ومما تجدر الإشارة إليه أن المجلس الأعلي للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية( الثقافة حاليا) كان قد منح نجيب محفوظ جائزته التقديرية في الأدب عام1968 قبل نوبل بعشرين عاما. وروي نجيب محفوظ أنه سلم المبلغ لسمسار أراضي للحصول علي أرض يبني عليها مسكنا لكن السمسار توفي ولم يترك وسيلة لاستعادة المبلغ أي أن نجيب محفوظ أبدع بينما السمسار هو الذي قبض. ولا يفوتني أن أذكر أنني استلهمت من رواية زقاق المدق قصتين أزعم أنهما فريدتان في تاريخ أدبنا العربي هما قصتا مصرع عباس الحلو و زيطة صانع العاهات نشرتهما في العشاق الخمسة أولي مجموعاتي القصصية عام1954, أي منذ أكثر من ستين عاما, تنبؤا بما أصبح عليه نجيب محفوظ من مكانة أدبية وشهرة عالمية. وكنت قد نشرتهما من قبل في مجلة الأديب البيروتية علي التوالي في ديسمبر1948 ويونيو.1949 *** بدأ نجيب محفوظ رحلته الأدبية بالقصة القصيرة, ثم وجد أنها تضيق عن استيعاب تجربته الفنية, فهجرها كما هجر الدراسات الفلسفية من قبل, ليقوم برحلته في عالم الرواية. وهكذا كتب رواياته الثلاث الأولي وهي عبث الأقدار( عام1939) ثم رادوبيس(1943) ثم كفاح طيبة(1944). وكلها روايات تاريخية استلهم فيها التاريخ الفرعوني. وكان في ذلك متأثرا بالتيار القومي الفرعوني الذي اتجه إليه كثير من المصريين في ذلك الوقت كرد فعل للنفوذ البريطاني. وكانت الرواية الأخيرة تتناول قصة كفاح الشعب المصري ضد احتلال الهكسوس, وكأنما نجيب محفوظ يذكر بذلك الشعب المصري بما فعله أجدادهم من قبل مع احتلال مماثل. وكانت قصة كفاح طيبة إيذانا بانتهاء المرحلة الأولي من حياة نجيب محفوظ الأدبية وبداية مرحلة أخري.. فنشر في العام التالي( عام1945) روايته القاهرة الجديدة. وواضح أن عنوان القاهرة الجديدة إنما وضع في مقابل مصر القديمة التي كان نجيب محفوظ يولي وجهه نحوها من قبل. بذلك انتهت مرحلة نجيب محفوظ الأدبية في رحاب التاريخ لتبدأ في أحياء القاهرة حديثها ثم قديمها, وكانت هذه المرحلة تتميز عن سابقتها بالروح النقدية وإتقان الصنعة الروائية شيئا فشيئا حتي تنضج في بداية ونهاية ثم تبلغ ذروتها في ثلاثية بين القصرين آخر أعمال هذه المرحلة. ولأن كان انتقال نجيب محفوظ من مرحلة الرواية التاريخية الفرعونية إلي مرحلة الرواية الاجتماعية المعاصرة قد تم دون معاناة لحظة من لحظات التأزم, فإن انتقاله إلي مرحلته الأدبية الثالثة- مرحلة الواقعية الجديدة علي حد تعبيره- جاء نتيجة أزمة مر بها أشبه بتلك التي سبق أن مر بها عندما تأرجح بين الدراسات الفلسفية والكتابات الأدبية. وقد تضافرت هذه المرة عوامل خاصة بتطوره الفني مع عوامل اجتماعية وسياسية كان مجتمعنا المصري يمر بها, لهذا لم تكن الأزمة أزمة نجيب محفوظ وحده, بل أزمة كل فنان وأديب كان فنه وأدبه يتجه نحو نقد المجتمع المنحل من حوله حتي23 يوليو عام.1952 وهكذا تكونت أزمة نجيب محفوظ بحثا عن أسلوب جديد ومضمون جديد. وهكذا بدأت المرحلة الأدبية الثالثة التي مر بها نجيب محفوظ تلك المرحلة التي بدأت بقصة أولاد حارتنا. هذه المرحلة يمكن تسميتها الواقعية الجديدة عند نجيب محفوظ.. وهي واقعية لا تحتاج إطلاقا لمميزات الواقعية التقليدية التي يقصد بها أن تكون صورة كاملة من الحياة, بل هي تتجاوز التفاصيل والتشخيص الكامل, وهي تطور في الأسلوب والمضمون معا. معني هذا أن واقعية نجيب محفوظ السابقة كانت الحياة فيها تسبق المعني الفكري, أما واقعيته الجديدة فالمعني الفكري يسبق الأحداث التي تعبر عنه. ولا شك أن الخبرة التي اكتسبها نجيب محفوظ في مرحلته الأدبية السابقة قد مكنت له النجاح في مرحلته التالية, ولولا تلك الخبرة لطغت الفكرة علي قصصه الأخيرة وأصبحت شخصياته مجرد أفكار ذهنية تتصارع في معارك وهمية. ومع ذلك فإن بذور الأسلوب الجديد التي كانت قد وجدت طريقها في الأعمال الأخيرة لنجيب محفوظ في مرحلته الأدبية الثالثة, سبق أن وجدت طريقها في رواية بداية ونهاية.. لا سيما عندما كان حسنين يخاطب نفسه قبل أن يقدم علي الانتحار. كما ورد هذا الأسلوب في مواضع متفرقة من الثلاثية. لكنه, كما يقول نجيب محفوظ: في الثلاثية كنا نقدم جيلا وزمانا ومكانا بلا قصة دراماتيكية, فالتفاصيل في هذه الحالة هدف جوهري. ولقد اختفت هذه الظاهرة عندما تغير الهدف كما حصل في أولاد حارتنا واللص والكلاب و السمان والخريف وهي الروايات الثلاث من روايات تلك المرحلة ولهذا لم يعد لها ذلك الطول الذي سبق أن بلغ أقصاه في الثلاثية. بعدها انتقل نجيب محفوظ إلي مرحلته الإبداعية الرابعة التي بدأها عام1987 بنشره قصصه القصيرة جدا التي تتراوح بين بضعة سطور ولا تتجاوز الصفحة, نشرها في كتاب بعنوان: أصداء السيرة الذاتية عام1995, تلتها أحلام فترة النقاهة, وتتميز بالإيحاء والرمز وشدة التركيز. وهكذا نجد نجيب محفوظ فنانا متطورا متجددا لا يعرف الوقوف.. ولعل من أكبر أسباب نجاحه إلي جانب الهبة التي وهبها أنه عرف طريقه ومضي فيه لا يشتت بصره وهج الشهرة ولا بريق المادة. فهذه الرهبنة الفنية التي عاشها هي التي تمده بأسلوب النجاح في العمل الذي انقطع له, وهي رهبنة لا تعزله عن الحياة بحيث تجرده من معاناتها لكنها أيضا تبعده عن أن ينغمر فيها بحيث تشغله عن التأمل فيها والتعبير عنها. ومن الطرائف التي تستحق التسجيل أنني عندما انتهيت من كتابة كتابي رحلة عمر مع نجيب محفوظ تقدمت به للهيئة المصرية العامة للنشر, وكان الصديق يوسف القعيد هو مسئول النشر يحثهم علي نشر الكتاب دون استجابه, فعرضت الأمر علي الصديق الدكتور حسين حمودة مسئول النشر بالمجلس الأعلي للثقافة. فرحب بنشره معلنا أن مؤتمرا للأدباء سيعقده المجلس بعد شهرين ويمكن توزيع الكتاب علي مشاركيه مصريين وعربا ومستشرقين, وفعلا تم نشر الكتاب عام2010 وتم توزيع مائتي نسخة منه مما لم يكن متاحا لو نشرت الكتاب الهيئة المصرية العامة, وهكذا رب ضارة نافعة كما يقولون. ويتضمن الكتاب حوارا دار بيني وبينه قاده د. غالي شكري علي صفحات مجلة الطليعة بتاريخ يناير1973 يدور حول أربع نقاط: الأوضاع الاجتماعية, اللغة, التكنيك, وأخيرا العلم والأدب. بعد ذلك فصل بعنوان نجيب محفوظ وحرافيشه ناقشت فيه ما كتبه عنه عبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم في كتابهما الثقافة المصرية(1955), ومحمد جبريل في كتابه نجيب محفوظ صداقة جيلين, ثم المجالس المحفوظية(2006) لجمالي الغيطاني, ثم في حب نجيب محفوظ(2006) لرجاء النقاش, وأخيرا نجيب محفوظ المحطة الأخيرة(2006) لمحمد سلماوي. ويختتم الكتاب بتقديم كتاب نجيب محفوظ بعيون سورية تقديم رياض نعسان أغا وزير الثقافة السورية( عام نشر الكتاب2007) وإعداد الاديب عبدالله أبو هيف. وختاما أعلن أن نجيب محفوظ من أندر الشخصيات- من غير الأنبياء- الذين فازوا بأعظم جائزتين: التكريم بنوبل, والطعنة في رقبته.