«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ألاعيب شيطانية فى أرض الدم والعسل
العراق فى عين العاصفة بين أطماع الأعداء وعجز الأشقاء

قدر العراق أن يسرق حلمه الطغاة، وأن يحرق تاريخه الغزاة، وطن موعود بالنقمة والألم، مملوء بالنعمة والسمو، فى بابل اختلفت الألسن و«تفجرت» العداوات، الفتن نار مجوسية لاتنطفئ، رأس الحسين فى كربلاء، معلق على رمحه ينتظر مهديّا يحملُ بيرق الخلاص،
هنا مرّ كل الجبابرة أفنوا البشر والحجر، من المغول إلى الأمريكان، تتبدل هوية الغاصب ويبقى العراقي ضحية الوحشية.. فى «العراق الجديد» يتوضأ الزعماء بالنفط ويتيمموا بالدماء، «ذيول» للنفوذ الأجنبى، تفرغوا لمصالحهم الطائفية الضيقة، بفساد منقطع النظير، تآكل بناء الدولة، تصدع لبنة لبنة.. فرق الموت المتجول حطمت بمعاول الخراب الهيكل العظمى لبلاد الرافدين، ثم فاضت الكأس على الجيران، دما وهلاكا، الجميع خانوا العراق، حتى أبناؤه خانوه..
لم يشفع له أنه أرض المعجزات، أرض «أسطورة شقائق النعمان»، حيث يعود دم الشهيد، مطلع كل ربيع، مذكرا الأحياء بالتضحيات فى سبيل المستقبل، أو أن أحشاء العراق ضمت - مع مصر- بذور التقدم وقت طفولة البشرية، وجمعت مشيمته كل رئات العالم، من حمورابى إلى الرشيد، سلسال حضارات وشرائع وازدهار عابر للقرون.. اليوم تشارف «بغداد» حدود التقسيم والفناء، تسير عارية إلا من مجدها وتفردها، تلاحقها لعنة الموقع الاستراتيجى ونقمة النفط الأسود وأطماع البغاة خامنئى وأردوغان وأشباههما..!
شطب الغزو الأمريكى 20 % من سكان العراق، موتا أو نزوحا، ذات يوم تبجح كارل روف، كاتب خطابات جورج بوش الابن: «نحن قوة امبراطورية تصنع التاريخ وعليكم وعلى الآخرين دراسته، نحن نبدع حقائق جديدة أبدا»..إنها بالفعل «حقائق جديدة»: خرائط تتمزق وأوطان تتبخر. النفط «حمض نووي» لمشاريع التفتيت، قدرته مفزعة على التحول من «فقاعة» جيولوجية، إلى زلازل جيوسياسية. دفع الطموح أمريكا إلى منزلة القوة العظمى، وبعد زوال الاتحاد السوفيتى نصبت نفسها شرطى العالم المتفرد، لكن مواقف إدارات كلينتون وبوش وأوباما تجاه الشرق الأوسط ظلت دون تغيير، لعبت دور الملك «ميداس»فى الأسطورة، لكن بدلا من أن يتحول كل شيء تلمسه إلى ذهب، فإنه يتحول إلى حرائق، أحاطت بالنار كل من يناصبونها العداء، فامتد الشرر ليحرق قلبها.. بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، شرب بوش الابن و«زمرة المحافظين الجدد» كأس النشوة، شرعوا في مهاجمة المنطقة وتفكيك دولها، انزلقت واشنطن إلى وهاد الخطيئة ولم يكفها أنها عمدت نفسها بحمام من دم، بدأت حربها فى أفغانستان، ولما أتى السابع عشر من مارس 2003 امتدت أياديها إلى العراق، وفى حين وصل هولاكو إلى أبواب بغداد منتصف المحرم 656 ه، غزاها الأمريكيون والبريطانيون فى اليوم والشهر نفسه 1423ه، سقطت عاصمة الرشيد فى 9 أبريل 2003، كان يوماً كارثيا، قفز من «روزنامة» الحائط، ليحفر نفسه بالذاكرة..
سلمت أمريكا العراق للعدم، حتى اللحظة لم تهدأ المذابح.. كله بحجة نشر الديمقراطية وتحرير البلاد من الديكتاتورية، استبدلت تماثيل صدام ب«أنصاب الكوكا كولا».. مفارقة جارحة للأرواح، فالديمقراطية الطائرة- أو«المزعومة» مع الطائرات النفاثة- مفرطة فى قسوتها، لا ترى فى أرض العرب سوى صحراء، يجرى بين أعطافها «الزيت الأسود». تناسى المحتل أن شعب العراق هو حامل أصالات بلاد ما بين النهرين، نهبت قواته المتاحف، حطموا المعابد والمكتبات، قتلوا العلماء وطاردوا المثقفين، حمت الدبابات الغازية وزارتى النفط والمالية، وقصفت ما سواهما، سقطت شواهد الحضارة.. لم يدمر المبتهجون بالنصر الزائف تراث المنصور والرشيد والجاحظ والكندى والمتنبى فقط، بل ثأروا من «السبى البابلى» فى التاريخ اليهودى، وهم يسحقون الإرث السومرى والأشورى والبابلى لمصلحة إسرائيل –أكملت داعش المهمة- خربوا مواقع صدحت فيها «عشتار» داعية الحب لا الحرب، واكتشف فيها «جلجامش» أن بناء الحضارة طريق مستقيم إلى سر الخلود»، حكمة لم تعقلها قوات المارينز، وكيف يعرفونها وهم مخترعو الإبادة، منذ فتكوا بالهنود الحمر بلا هوادة..
ألغى الاحتلال جيش العراق ومؤسساته، بذريعة «الديمقراطية»، ونظم الصراع بين ممثلي «الكيانات» على السلطة الفيدرالية، ملأت واشنطن بجيشها ومرتزقتها وتكنولوجيتها فراغ القوة الناشئ عن انهيار أكبر جيش عربى، ساعية لإعادة «صياغة المنطقة» من البوابة البغدادية، بحسب تصريح وزير خارجيتها الأسبق كولن باول قبيل الغزو.
أما مواقف الأنظمة العربية كلها، المعلوم منها والمكتوم خلال الحرب وما بعدها، فقد لخصه الأمريكى بريان وود ورد: بأنه توزع بين «خائف» و«ساكت» و«متواطئ علنا» و«متواطئ سرا»!..نسى العرب «قصة الثور الأحمر»، قطعوا غصنا يجلسون عليه، ما نزل بالعراق حربا وتشريدا، حلّ ببلادهم «إصلاحا هيكليا» وانفتاحا، لإلحاقها حديقة خلفية للغرب المهيمن فى عصر العولمة والصراع الحضارى، وفقا لرؤية صمويل هنتنجتون. فرقت العرب السبل المتباينة وجمعتهم النتائج المتشابهة، مازال ثقل احتلال العراق حضورا نازفا فى وعى الذات العربية، وبالونة اختبار لعملية هندسة ثقافية سياسية، حقل تجارب لتسويغ شكل استعمارى جديد، يكون ظهيرا للاحتلال الإسرائيلى فى فلسطين، على نحو ما أكده أخيرا تقرير «تشيلكوت» البريطانى وانكشاف أكذوبة «أسلحة الدمار الشامل العراقية»..!
لانبتغى، هنا، رثاء أرض الدم والعسل، أومجرد توصيف المشهد العراقى، إنما مساءلته، وتفكيك حيثيات المطمور من شره المحض، قبل أن يزور من تبقى منا مشاة البحرية الأمريكية أو جحافل الداعشية أو المليشيات الإيرانية، أو فلول الجيوش الأردوغانية، فى زمن لاحق.
دفاتر الأزمة
تقليب دفاتر الأزمة يظهر أن الغرب والشرق كليهما ربى صدام حسين ليكون ديكتاتورا، خادما لمصالحهم، وفى لحظة فكاكه من السيطرة «انقلب» الغرب على الطاغية، طمع الرجل فى وراثة دور شاه إيران، شرطيا للخليج، تلك «قطعة الجبن» التى وضعت له فى المصيدة، فوّضه الغرب وعرب الخليج هذا الشرف مادام يحارب طهران، بانتهاء الحرب خشى من الجيش المتضخم، دفع به صوب الكويت، تجاوز صدام حدود «التفويض» فكان جزاؤه قطع رأسه.
جاء غزو الكويت جريمة وزلزالا استراتيجيا فاجعا، ومثله احتلال العراق، أظهرت «الخطيئتان» مسلّمة كاشفة، أن الهدف الحقيقي الغربى هو إعادة رسم خريطة العالم العربي بما يلائم المصالح الأمريكية لاغير، فى ظل تشرذم العرب وعجزهم الجماعي العسكري والسياسي. حدد هنرى كيسنجر «العقيدة الاستراتيجية» الأمريكية بالمنطقة بمقال، فى «هيرالد تريبيون» 2 أبريل 2012- على ركيزتين: حماية أمن إسرائيل وإمدادات النفط، لكنه فضح بفجاجة المبدأ الأهم وراء هذه السياسة، وهو «منع ظهور أي قوة إقليمية عربية تستطيع أن تجمع المنطقة حولها»- سبق للمفكر الأمريكى نعوم تشومسكى كشف المخطط، فى كتابه «النظام العالمى القديم والجديد»- لذا يواصل الغرب تفريغ الدول المحيطة بإسرائيل، من الجيوش القوية: العراق وسوريا وليبيا والمحاولة متواصلة مع مصر منذ يونيو 1967، والحد من القيمة الاستراتيجية للنفط العربى، بدورات الانهيار فى أسعاره، وإشعال الحروب الصغيرة والمتوسطة بين جميع اللاعبين، لتنفيذ مبدأ أوباما، أى التركيز على منطقة المحيط الهادى، وتطويق الصين التحدى الأكبر لواشنطن، وكبح النفوذ المتنامى لروسيا بالمنطقة.
جانب غير مرئى بخلفية المشهد العالمى، أدى إلى المنحدر العراقى، إذ تزامن غزو الكويت واحتلال العراق، مع تحول الشرعية الدولية، من إزالة «الاستعمار القديم» إلى تجليات «ما بعد الحداثة»، أفضت إلى ولادة نظام عالمى نيوليبرالى جديد برجاله ومؤسساته، كان «المحافظون الجدد» بواشنطن الأكثر رعونة في التعبير عن شراسته، بالسعى لاحتكار الأسواق والثروات الكونية، دون اكتراث بمبدأ سيادة الدولة الوطنية.
التحدى والاستجابة
وحتى لايكون هذا هو الحق الذى يتعرض لباطل السياسة، يظل العامل الأساسى فى نجاح المؤثرات الخارجية، هو ضعف الاستجابة العربية إزاءها –وفقا لنظرية «التحدى والاستجابة» لفيلسوف التاريخ أرنولد توينبى- فالعجز والتشرذم العربى نتاج طبيعى لبيئته، تجلت إرهاصات التفكك السياسي والاجتماعي بوضوح، طوال القرن الماضى، وتفاقمت مطلع القرن الحالى، لأن الأنظمة العربية، القادرة والقلقة والمنهارة، أسست شرعيتها على الحكم الاستبدادى المدعوم فقهيا، ولم تفتح الباب أمام المشاركة الفعلية للشعوب والتعددية وتمثيل الأقليات، مع شيوع الاقتصاد الريعي، وتدعيم الحركات المتشددة:الإخوانية والسلفية والجهادية التكفيرية في لعبة الصراع على الإسلام وهويته، حتى صار المسلم موصوما بالإرهاب، والإسلام عدوا مناهضا لمكاسب البشرية، ذلك بدل إرساء إسلام مدني جامع متصالح مع الحداثة، خارج أطر المذاهب وحروبها الدامية منذ 1400 سنة. عراق اليوم أكبر دليل على اختبار صحة تلك المقولة، وقد شكلت الأحزاب الإسلاموية: الشيعية (الدعوة وغيرها) والسنية (الإخوان المسلمين) بيئة حاضنة داعية ومرحبة بالاحتلال، تحت مظلة نخبة مثقفة علمانية تابعة، يمثلها ّمكية وعجمى والجلبى .. كلهم ذبحوا البلد قربانا (للمحررين) وقدموه هدية للقتلة..!
سقطت بغداد قبل الغزو، فى جدل «الصراع الكلي» بالإقليم، غرقت بعده فى مستنقع الاصطفافات الجيوسياسية والاجتماعية، عبر الفشل الكارثى للعملية السياسية الكسيحة، على يد نورى المالكى رئيس حزب الدعوة، رئيس الوزراء السابق (المفوض السامى الإيرانى –الأمريكى)، بفساده المهول وطغيانه الكاسح والأخطر اعتماده «التشيع السياسى» مشروعا طائفيا للحكم، سيرا على المبدأ الذى غرسه الانجليز بتربة المنطقة: «فرق تسد»، ليدق مسمارا بنعش العراق. فى المقابل تأجج «التسنن السياسى»، خرجت من رحم كل طائفة وعرقية ميليشيات عنقودية، تخوض حروبا أهلية مذهبية، لمصلحة إيران وأمريكا وتركيا وغيرهم، حروب لاناقة فيها لأهل العراق ولا جمل، فاض دجلة والفرات بالدماء البريئة.
وسط الجحيم تفجرت الطامة الكبرى، تمكن مئات المتطرفين مما يسمى دولة العراق والشام الإسلامية «داعش» من تحطيم الجيش العراقى (الأمريكانى). صار «نمرا من ورق»–فى عدة ساعات- باع الجنود سلاحهم «السلاح مقابل الدشداشة»، جيش بنته أمريكا وأنفق عليه المالكى مئات المليارات من الدولارات، فى واحدة من أضخم وقائع النهب والفساد عالميا. كان هذا إحدى نتائج تفاقم الطائفية السياسية، لحد الصراع الدموى بين أصحاب المذهب الواحد، فالشيعة مثلا منقسمون بين الولاء للمرجع الأعلى السيستانى فى النجف، والولاء للمرشد الإيراني على خامنئى، وما بين بين، يجد هذا ترجمته في تحركات مقتدى الصدر ضد المنافسين الآخرين، ومنهم حيدر العبادى رئيس الوزراء الحالى، والذى تظل محاولاته (الإصلاحية) الأخيرة عاجزة عن ردم الهوة السحيقة بين المواطن المغدور والفرق الحاكمة أوالمتحكمة، كما أن انحيازات العبادى - لفصائل لاتعبأ بالوطن المذبوح، إنما بالغنائم المباحة- تذكر بالبون الشاسع بين الأقوال والأفعال. وإذا كانت الطائفية أفشلت التجربة برمتها، فإن «العشائرية المسلحة» وجه آخر لها، عنصر محدد فى عمليات الوصل والفصل بين السياسة والدين، والاستقرار والحروب، سواء الصحوات أوالحشد الشعبى أو الفصائل الكردية، نظرا لقدرة العشائرعلى اختراق وتجاوز خطوط «سايكس-بيكو» المرسومة على رمال الصحراء العراقية.
الهويات القاتلة
تبقى «الحالة العراقية» مثالا لمأساوية التدخلات الدولية والإقليمية وتفسخ الدولة السياسى والمجتمعى وانهيارها الاقتصادى، بالتوازي مع انفجار الهويات الدينية أو «الهويات القاتلة» –بتعبير اللبنانى أمين معلوف- وولادة جيل جديد، جيل الحرب والهزائم والعنف الديني، ينبذ العروبة كقاعدة حضارية جامعة، ويبني وعيه على أسس مذهبية وطائفية؛ بسبب «الأحقاد القديمة» بين السُنّة والشيعة، والاستبداد وتغييب ثقافة المواطنة وفشل الديمقراطية. تهدف حروب الجماعات التكفيرية السنية أوالشيعية إلى اصطناع كيانات سياسية بديلة للدولة الوطنية، واستنزافها في صراع دموي غير متكافئ، يمزّق تراثا طويلا من عوامل التمازج الإقليمي التاريخي، والتي ما كانت الحضارة العربية الإسلامية من دونها غير صحراء يباب.
النفوذ الإيرانى والتركى
لم يضع اللاعبون الإقليميون «الفرصة العراقية»، ضربوا على أوتارها، غذوا الخلافات المذهبية لتتفاقم، نجحت إيران نجاحا باهرا واقتدت بها تركيا، حتى تكاد تسبقها. انقسم العرب –كالعادة- حول الأوضاع فى «البوابة الشرقية»، أسهموا بتخاذلهم فى تأجيج النيران.
نفوذ طهران فى بغداد، يفوق ما لواشنطن، حصدت ثمار جهود دءوب للهيمنة على (بلد) أذاقها مرارة الحرب والهزيمة طيلة 8 سنوات، إجمالا بات العراق أبرز ساحات استعراض القوة الإيرانية، سيطرت على نخبته الحاكمة وغرست أذرعها المسلحة (الميليشيات) فى شرايينه. تجيد إيران «تستيف» الأوراق»: العراق، سوريا، لبنان، اليمن، لتكون مصدر قوة لدورها المتصاعد، براعتها مشهودة فى اغتنام كل محنة بالمنطقة، انظر المفاوضات مع الغرب حول ملفها النووى، حتى الحرب ضد داعش، أمست تصب فى مصلحتها، وتعزز حضورها بملفات الإقليم والعالم. إنه هدف لاتحيد عنه، برغم تهديده دول الخليج والأمن القومى العربى، هذا يؤكد القاعدة ولاينفيها: إن الضعف والغياب العربى هو ما منح طهران كثافة الحضور.
تسابق تركيا إيران بالنهج نفسه، لزيادة مكاسبها في العراق وسوريا، عبر تقوية علاقاتها مع القبائل السنية، خاصة فى الموصل وكردستان، رعت «داعش» ليكون أحد مخالبها، أقامت قاعدة عسكرية فى بعشيقة شمال العراق، أخذ هذا الدور منعطفا خطيرا للغاية فى الأيام الأخيرة، بالتدخل المباشر فى القتال الدائر حول الموصل. رفض أردوغان سحب قواته من العراق، برغم مطالبة حيدر العبادى، ليسقط القناع كلية عن أطماع أردوغان فى قضم «الموصل» من العراق، و«حلب» من سوريا، ليضمهما إلى تركيا، متجاوزا اتفاقية «لوزان» عام 1920، موقف «عثماني» تاريخيا، «إخواني» سياسيا، ينظر إلى «الموصل» ثانى أكبر مدن العراق وبؤرة ثروته النفطية، بوصفها غنيمة فى «حرب أنفال» إقليمية دولية، يقودها قراصنة متصارعون في بلاد الرافدين العربية. نتيجة معركة الموصل ستقرر الحد الفاصل بين بقاء العراق موحدا، أو تشظيه إلى كتل متفسخة متحاربة، بفعل شراهة الأطماع، خاصة الإردوغانية التى لن توقف عند حد، فالحبل على الجرار والجميع فى مهب «الحلم السلطانى»، وأولهم من يستكينون لمخططاته، ولو بالصمت المعبر عن الرضا. لقد أشارت جريدة «يني شفق»التركية، الموالية لأردوغان، في 11 سبتمبر 2016، إلى أنه اتفق مع دول خليجية على تمويل القوات المهاجمة للموصل، مع استعمال قوات «البيشمركة» الكردية، لمقاتلة «الحشد الشعبي» الشيعية، المفارقة المذهلة أن لا أحد يعرف نهاية لحدود المغامرة التركية، ولا يتصور عاقل أن أردوغان الذى قال إن حدود العراق وسوريا مع بلاده «ثقيلة على النفس»، سوف يتوقف -إن نجح- عند ضم الموصل وحلب وحدهما. هو لا يخفى أطماعه بثروات العراق النفطية الهائلة -ثانى أكبر احتياطى فى العالم- وموقعه المحورى الواصل/المانع مع دول الخليج، سعار الهيمنة على منابع النفط والرغبة باستعادة الخلافة العثمانية لن يترك بقية العرب فى مأمن.
أنقرة وطهران تشدان أطراف العراق، مع حلفاء الخارج وأعوان الداخل، مما قد يفضى إلى تمزيقه إلى دويلات أو كانتونات، كأن البلدين يقرآن من كتاب «جو بايدن» نائب الرئيس الأمريكى وبرنارد لويس، ومخططه لتفتيت بلاد الرشيد، تمهيدا ليلحق بها بقية دول الإقليم، وفقا لنظرية «الدومينو» الشهيرة، وتصبح معها حدود «سايكس-بيكو» حلما عصى المنال. منذ 4 أشهر كشف»برنار باجوليه» مدير الاستخبارات الفرنسية عن أن الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة، مؤكدا أن دولا مثل العراق وسوريا لن تستعيد حدودها السابقة، وقد وافقه مايكل هايدن مدير المخابرات المركزية الأمريكية السابق وجيمس كلابر مديرها الحالى.
سقطت دولة العراق «الأمريكانى» فى الحضيض، بعدما بددوا عليها تريليونات الدولارات، وحل مكانها الفوضى والفراغ، حلقات الخطر تضيق بإحكام حول خاصرة بقية العرب- مجيء ترامب قد يعجل أو يبطئ العجلة، لكنه لن يغير الطريق- اكتفت دول الخليج بالمشاهدة الحزينة، وهي تراقب استحواذ إيران على العراق تحركه كيف تشاء، عانت هذه الدول مرارة القلق من صدام حسين، وهى أشد خوفا من العراق المذهبى وحكامه الجدد الطائفيين، هذه الدول هى صاحبة المصلحة الأولى فى استقرار العراق ووحدة أراضيه، وقد دفعت -وستظل تدفع- فاتورة باهظة لأوضاع العراق والشام واليمن، وليس أمامها سوى الإصرار على التصدى لمخطط تقسيم العراق وكبح النفوذ الإيرانى-التركى فى ذاك البلد العربى، وبلع المرارات القديمة بانتهاج سياسات مغايرة، بإعادة الاعتبار للعروبة، بعد تخليصها من العيوب والشكوك والأحقاد المتوارثة، لأن النيران توشك أن تمتد من العراق إلى البيوت المجاورة مهما تكن منيعة.
المواقف الرمادية
منذ البداية اعترضت القاهرة بنعومة ضد الغزو الأمريكى، بعد الغزو قتلت المليشيات السفير المصرى، وحالت الظروف الداخلية والضغوط الإقليمية دون تمكن مصر من القيام بدور مطلوب بالعراق.. تفاقم الوضع عقب ثورتى يناير ويونيو، بعد انشغال الكنانة بأوضاعها الداخلية، خاصة الاقتصادية، لكنها تظل اللاعب الوحيد –ولو نظريا- القادر على حرية الحركة واكتساب ثقة الأطراف الفاعلة هناك، لم تتلوث أياديها بدماء العراقيين أوالتحريض عليها، يرفض النظام المصري الحالى الأحلاف الطائفية، سنية أو شيعية، يقترح قوة عربية مشتركة، إحياء لصيغة من التضامن العربي غير الطائفي- بمواجهة الأزمات والحركات الإرهابية، تعزيزا لاستقلالية السياسة المصرية والعربية، إن مصر مطالبة بلعب دور أكثر وضوحا وحيوية بالعراق، لأن وحدته واستقراره، مصلحة مصرية بالدرجة الأولى، يكفى أن نعلم أن معظم مشكلات الاقتصاد المصرى ستتوارى، بمجرد بدء مسيرة التعمير هناك، وذاك أضعف الإيمان.
أحزاننا على العراق مازالت رطبة ويبدو أنها لن تجف قريبا، مادام اللاعبون الإقليميون والدوليون يجتهدون لركن بلاد الرافدين فى دائرة الأمم المنقرضة، والعرب المتفرقون يواصلون إسقاط وزنهم الكبير فى محيطهم الجيوبوليتيكى. أما الخطأ الأكبر فهو الاستسلام لما يجرى فى بغداد، وعدم الدفع بتغييره، كوة الأمل مازالت مفتوحة- وإن كانت ضيقة- كلما تأخرنا تكبدنا ثمنا أكثر فداحة. الأهوال التى يعانيها الشعب العراقى تجعل المواقف الرمادية غير قابلة للتنفس، تلك مواجهة كبرى تتطلب قرارات بالمستوى نفسه.
إن الرثاء والتعاطف غير كاف، غير مجد، إنقاذ العراق هو الباب الملكى لإنقاذ العرب أجمعين، يمكن لمصر والدول العربية لو توفر الرشد والعزم أن تقلب الطاولة، وتسترجعه من الإذلال الإيرانى– التركى- الأمريكى، وتستعيده من يد الفناء واحتراب جماعات ما قبل الدولة المتوحشة. هذا إن حدث سيكون أهم انتصار استراتيجى عربى منذ أكتوبر 1973، والتاريخ لايسير على خط مستقيم، إنه مظهر ثابت ومخبر متغير، قد نخاطر بالتعامل مع واقع معقد له امتداداته المتشابكة مع قضايا أخرى وحروب ظاهرة وخفية، تدورعلى رمال متحركة، كل مخاطرة مغامرة، وإذا كانت موازين القوى تقرر النصر أوالهزيمة، فإن حيوية الجماعات أوالشعوب أمر يصعب تقديره أوتجاهله (الحيوية، الإرادة، العصبية، بتعبير ابن خلدون).. إذ إن الهيمنة الخارجية - إيرانية أو أمريكية أو تركية- تصنع الحكومات المعلبة التي ترافقها دائما، حكومات ترتهن حركتها بعمر المحرك الأساسي لها وهو الاحتلال، ومهما طال بقاء الاحتلال فهو قصير.. إن شعبا أصيلا عظيما كشعب العراق يستعصى عليه القبول بثقافة وواقع الرضوخ للاحتلال متعدد الجنسيات، إن وجد سندا مخلصا من أشقائه المخلصين.. جربوا وستروا..!
......................
......................
يقول معروف الرصافى:
بغداد حسبك رقدة وسبات
أو ما تمضّكِ هذه النكبات
وَلعَتْ بكِ الأحداث حتى أصبحت
أدواء خطبكِ ما لهنَّ أساة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.