ودعت مصر دبلوماسيا رفيعا، تحلى بالثقافة والخبرة واتساع الرؤية ونقاء السريرة هو السفير علي ماهر، الذي أمضى سنوات عمره الأخيرة في خدمة العلاقات الخارجية لمكتبة الإسكندرية. ويعز على شخصيا أن أكتب ناعيا الراحل الكريم، الذي عملت عن كثب معه، وتحاورت معه كثيرا، وشاركني في كثير من المبادرات التي قامت بها المكتبة، مجسدا خصالا نبيلة تعلمها كل من اقترب منه: التواضع الجم، والرؤية العميقة، والعمل الجماعي، والهدوء في اللحظات الصعبة، والرأي السديد الذي يختزن خبرة عقود من العمل الدبلوماسي. وكلما التقيت دبلوماسيين سواء كانوا مصريين أو أجانب يزداد اطلاعي على التأثير الذي أحدثه السفير علي ماهر في العلاقات الخارجية لمصر والعالم العربي بأسره. السفير علي ماهر سليل عائلة سياسية عريقة، فهو حفيد أحمد ماهر باشا رئيس مجلس النواب الأسبق، وشقيق المرحوم أحمد ماهر وزير خارجية مصر الأسبق. درس القانون في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وحصل على دراسات رفيعة من المعهد الدولي للإدارة في باريس، ومعهد الدراسات الدبلوماسية. تدرج مثل أي دبلوماسي محترف في السلك الدبلوماسي، وخدم في بلاد عديدة مثل بريطانيا، واستراليا، وإيران، وعمل سفيرا لمصر في تونس ثم فرنسا، وعمل مساعدا لوزير الخارجية. وأضاف إلى رصيده الدبلوماسي خبرات سياسية مهمة من خلال العمل عن قرب مع كل من السيد محمد حافظ إسماعيل، والدكتور بطرس غالي، والسيد عمرو موسي. وشارك في مفاوضات ومؤتمرات دولية عديدة في قضايا مهمة مما أكسبه خبرات متميزة في مجالات نزع السلاح، والصراع العربي الإسرائيلي، والعلاقات بين جنوب وشمال البحر المتوسط، وغيرها من القضايا، التي أصقلت خبرته، وقد لمسنا ذلك عن قرب في مكتبة الإسكندرية من خلال النشاطات الدولية التي تقوم بها.وشاءت الأقدار أن يكون السفير علي ماهر في مواقع دبلوماسية في فترات سياسية حرجة أبلى خلالها مهارة خاصة في العمل، فقد عمل في سفارة مصر في طهران في السنوات الأولى من السبعينيات، وسفيرا لمصر في تونس في الفترة التي أعقبت عودة العلاقات بين مصر واشقائها الدول العربية، وظل ممثلا لمصر في جامعة الدول العربية في مقرها المؤقت في تونس قبل أن تعود مرة أخرى إلى مقرها الدائم في قلب القاهرة. ونظرا لخبرته وحنكته الدبلوماسية واتصالاته الدولية الواسعة فإنه كثيرا ما كان يُعتمد عليه من جانب نظرائه من السفراء العرب في بناء جسور بين العالم العربي والغرب خاصة في فترة عمادته للدبلوماسيين العرب في باريس (1999-2002)، فقد كان يحظى بتقدير ومصداقية عالية من الرئاسة الفرنسية وفرت له قنوات اتصال مباشرة مع قصر الإليزيه بما لم يتوافر لكثير من أقرانه في العاصمة الفرنسية وقتئذ، واستطاع عقد لقاءات مع ساسة ودبلوماسيين وكبار الإعلاميين والاقتصاديين لدفع العلاقات بين مصر وفرنسا من ناحية، والعالم العربي وفرنسا من ناحية أخرى. وظل السفير على ماهر حتى وفاته مؤثرا في الأوساط السياسية والدبلوماسية الفرنسية. ولم يكتف السفير علي ماهر بالعمل الدبلوماسي، بل كانت له اهتمامات ثقافية وفنية عديدة، اكسبته النظرة الثقافية المتعمقة إلى جانب تخصصه المهني الرفيع، فقد شغل منصب الأمين العام لمؤسسة الفكر العربي لمدة أربع سنوات، قبل أن ينتقل للعمل في مكتبة الإسكندرية. وعمل خلال وجوده مستشارا بالمكتبة على توطيد علاقاتها بالمؤسسات الأوروبية، خاصة العلاقات المصرية الفرنسية، ولا ننسى دوره البارز في عقد مؤتمر العلاقات المصرية الفرنسية في أكتوبر الماضي.اهتمامه الثقافي كان حاضرا باستمرار حتي في لحظات معاناته الطويلة مع المرض، فقد كان حريصا على حضور الندوات والمؤتمرات، والحديث بها، وكتابة مقالات باللغتين الانجليزية والفرنسية تنشر في كبريات الصحف العالمية، والتواصل مع الإعلاميين سواء في الصحف أو برامج التليفزيون للحديث في الشأن الدولي، والعلاقات الثقافية بين الدول، خاصة جهوده في دعم الحوار بين شمال وجنوب البحر المتوسط، وحوار الحضارات، والمساهمة في دعم الجهود المبذولة للتواصل ما بين أصحاب الثقافات والأديان المتنوعة في إطار رؤية أوسع لتحقيق السلام العالمي. وقد أهدى السفير علي ماهر مكتبة الإسكندرية مجموعة من الوثائق والصور النادرة، ومنها فيلم خاص بجده أحمد باشا ماهر، يقدم مسيرة حياته حتى اغتياله، وهو النسخة الوحيدة منه. هناك الكثير الذي يقال عن السفير على ماهر، الذي واجه المرض باستبسال، وكان حريصا حتى آخر لحظات عمره أن يؤدي عمله، ولم يسمح للمرض أن يقهره أو يصرفه عن ممارسة النشاط الذي أحبه. لم تفارقه ابتسامته، لم يمنعه ألمه من أن يكون مصدر راحة وطمأنينة لمن حوله، إذ تشعر في لقائه والحديث معه بألف واطمئنان وهدوء. أضاف الكثير لمكتبة الإسكندرية، وارتبط به العاملون في المكتبة من مختلف الأعمال إنسانيا ووجدانيا، وسوف يظل في قلوبنا أيقونة إنسانية جميلة، نتذكره بأعماله الجليلة وسخائه الإنساني، ونبل شخصيته. رحم الله السفير على ماهر، وعوض مصر عنه خيرا. لمزيد من مقالات د. إسماعيل سراج الدين;