أمامك هنا فى السطور المقبلة مثال حقيقى صارخ، لعله يكشف لك كيف يسعى البعض فى الخفاء إلى التلاعب بعقولنا وتضليلنا، مثلما تم التلاعب بعقلى فى هذه الواقعة البسيطة - لكنها دالّة- قبل أن أعرف «المعلومات» فأفهم «الحقيقة».. لكن الأمر يحتاج أولا إلى تمهيد.. فامض معى هنا بتركيز. فى التمهيد أولا، أقول مذكّرا أن الرئيس عبدالفتاح السيسى كان قد تحدث خلال مؤتمر الشباب قائلا إن الأفكار التى تم طرحها لتطوير التعليم هى جميعا أفكار رائعة، لكننا نحتاج دوما إلى أن نتساءل: «بكام ومنين؟»، حتى يمكن تنفيذها، مؤكدا أهمية ملف التعليم دون شك، لكنه أوضح فى الوقت ذاته أنه حتى لو تم توجيه ميزانية الدولة بالكامل لإصلاح التعليم فقط، دون النظر إلى باقى متطلبات الشعب، فإنها لن تكفى، وتساءل: «هل سيتحمل الناس هذا؟». ولأننى كنت واحدا ممن طالبوا بالبدء بملف إصلاح التعليم، فقد حاولت الإجابة عن السؤال، حيث وجدت أننا بالفعل، فى ظل نقص موارد الدولة، ووفقا ل «أحكام الضرورة» فقط، إذا ما اضطررنا - جدلا- إلى تخيير الناس بين الطعام والتعليم مثلا، لا شك أنهم سيختارون الطعام، ولكن.. قلت لنفسى: «ألا يمكن أن يكون هناك - برغم قلة الإمكانات- نوع من (التوازن) بين الجانبين؟!».. جاءت الإجابة المبشرة فى ختام المؤتمر، عندما تقرر إجراء حوار مجتمعى شامل لإصلاح التعليم، بهدف وضع ورقة علاج خارج الحلول التقليدية.. إذن فبدء الإصلاح ممكن ولو بالتدريج.. هذا رائع. ولكن.. بعد أيام من اختتام المؤتمر، وردت لى صورة على تطبيق «واتساب» للافتة حقيقية فى أحد الشوارع كتب عليها فقط سؤال هو.. «الأكل ولّا التعليم؟».. مع تعليق ساخر أسفل الصورة كإجابة للسؤال هو.. «التمرحنة»!.. فى إشارة للفيلم القديم الشهير. عندئذ.. جن جنونى.. واشتعل الرأس غضبا.. أثارتنى تلك اللافتة أكثر من التعليق الساخر.. وكان أول ما ورد إلى ذهنى هو أن جهة أو هيئة أو مؤسسة قد قررت أن تضع لمستها، وأن تترجم ب «فجاجة» كلمات الرئيس، فقامت بعمل حملة دعائية، من خلال تلك اللافتات «المستفزة» فى الشوارع، لتخيّر الشعب بين الطعام والتعليم، وهو أمر مرفوض دون شك، لأن الهدف من حديث الرئيس كان هو أن يعرف الناس حجم ضغوط الواقع، وأن للضرورة أحيانا أحكاما تفرض البدء بملفات دون أخرى، برغم الاعتراف بأهميتها جميعا، ثم إن ختام المؤتمر جاء ليعلن البدء بالفعل فى ملف التعليم.. فهل كان المقصود هو أن يتحول «حكم الضرورة» إلى «فكرة ثابتة» لتخيير الناس - بإذلال- بين الطعام والتعليم؟!. أخذت أعد العدة لكتابة مقال نارى.. عن تلك اللافتات ومن وراءها.. بدأت بهدوء جمع «المعلومات».. وعندئذ توالت المفاجآت!. عرفت أن لافتات «الأكل ولّا التعليم؟» كانت موجودة فى الشوارع، منذ نحو عام، وأنها كانت تمثل المرحلة الأولى من حملة لمؤسسة «مصر الخير»، إحدى منظمات المجتمع المدنى، استهدفت ترسيخ أهمية التبرع لمشروعات «التعليم»، ومنها المدارس المجتمعية فى القرى الفقيرة والنائية، وألا تتجه تبرعات المواطنين إلى بند «إطعام» المحتاجين بصورة أكبر.. ولكن لماذا تم اختيار هذا الشعار الذى يوحى للوهلة الأولى بتفضيل اختيار «الأكل» وليس «التعليم»؟!.. الصحفى الصديق محمد المراكبى المستشار الإعلامى للمؤسسة أوضح لى أن الشعار كان مقصودا للفت الانتباه، وأنه عندما أثار مشاعر الجدل والاستفزاز لدى الناس، تم اعتبار أن المرحلة الأولى من الحملة قد نجحت فى جذب الأنظار، لذا تم عمل لافتات جديدة للمرحلة الثانية أوضحت وقتها أن التبرع لإطعام الفقير هو عمل خيرى جيد، لكن هذا الفقير سيظل عندئذ محتاجا دوما لمن يطعمه باستمرار، لذا فإنه من المهم التبرع لتعليمه، حتى يصبح بعد ذلك قادرا على العمل والإنتاج والارتقاء بذاته، فيتمكن بالتالى - ومعه الوطن بالكامل- من إطعام نفسه بنفسه. تلك إذن هى الحقيقة.. وهذه هى المعلومات.. لا علاقة لأى جهة رسمية بتلك اللافتات.. والتى كانت تهدف فى الأساس إلى زيادة الاهتمام بالتعليم لا الطعام كوجهة للتبرعات.. أى أننا بصدد موضوع مختلف تماما جرى منذ عام وأكثر.. فلماذا ظهرت الآن بالتحديد - بعد كلمات الرئيس- صورة «التمرحنة» الساخرة؟!.. ولماذا انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعى كالنار فى الهشيم هذه الأيام؟!.. من يفعل بنا هذا؟!.. من يسعى للتلاعب بعقولنا؟!. هذه واقعة واحدة.. بسيطة.. لكنها دالّة.. هى مثال لغيرها من وقائع كثيرة.. تخلط الصدق بالكذب.. والحقيقة بالزيف.. تستخدم الاجتزاء والسخرية بغرض التشويه والتزييف.. هى واقعة واحدة.. لكنها - ككثير من الوقائع- فى ظاهرها خادعة.. خدعتنى فى البداية لأننى أعرف أيضا أن هناك آخرين ملكيين أكثر من الملك.. يترجمون الكلمات وفق أهوائهم.. يطلقون أبواقهم بحثا عن مصلحتهم.. فيفسدون المسار ويشوهون الصورة.. لكننا مطالبون دوما بالبحث بهدوء عن المعلومة.. وإن كان ذلك - وسط تلال الزيف على الجانبين- يبقى مهمة عسيرة!. والآن.. أتريد معلومة أخيرة؟.. الدكتور طارق شوقى الأمين العام للمجالس الرئاسية أعلن عن عقد مؤتمر وطنى لإصلاح التعليم فى شهر ديسمبر, بتكليف من الرئيس وتحت رعايته.. ترى هل بقى مكان للسؤال.. «الأكل ولّا التعليم؟»؟!. لمزيد من مقالات محمد شعير