رحلتنا اليوم نبدأها بما قاله نجيب محفوظ فى «المرايا»:»يوما بعد يوم، فان ايمانى يرسخ بأن نقاء الانسان يجئ من الخارج بقدر ما يجئ من الداخل، وأن علينا أن نوفر الضوء والهواء النقى اذا أردنا أزهارا يانعة». ومحفوظ نبهنا أيضا فى الرواية ذاتها:»الحياة فى صالح الانسان والا ما زاد عدده باطراد».. و»ان حكمة الحياة هى أثمن ما نفوز به من دنيانا ذات الأيام المعدودات..» ........................ ومن الطبيعى أن يقف المرء منا طويلا أمام عبارة «دنيانا ذات الأيام المعدودات» وهو يتساءل ماذا يمكن أن أخذ من هذه الدنيا وأيضا ماذا يمكن أن أعطى لها فى «تلك الأيام المعدودات»؟!. ومن حين لآخر تتردد على مسامعنا تلك العبارات التى تذكرنا دائما بألا يشغلنا كثيرا قصر الرحلة أو طولها بقدر ما يجب أن يشغلنا ما قد نحققه وما قد نكتشفه خلال هذه الرحلة. ونحن نلتقى فى طريقنا ومحطاتنا بشخصيات عديدة وأحداث متنوعة ونصطدم بتجارب ودروس قد نتعلم منها اذا أردنا ..وقد نهملها تماما اذا توهمنا فى لحظة ما (وما أكثرها) بأننا بلغنا قمة المعرفة والحكمة وبالتالى لسنا فى حاجة الى تجارب الآخرين وحكمهم ونصائحهم. نقف فى طريقنا بمحطة «صح النوم» وأيضا ب»ناس فى الظل» مع «يحيى حقي» وهو ينصحنا: «..هذه هى الحياة، خذها كما تأتي، اياك أن تظلم أو تؤذى أحدا، واياك أن يرهقك الجود وان اتهمك الناس بالسفه أو الغفلة والضعف».. وهو أيضا يتأمل من فاتته السعادة. تلك السعادة التى نتطلع اليها ونحلم بها ونتكلم عنها كثيرا فيقول: «فأدركت أن السعادة قد فاتته لأن سرها عندى أن نعرف كيف نماشى قوس الحياة والعمر، فنعيش فى الطفولة أطفالا وفى الشباب شبابا ثم نعرف كيف نشيخ بمهل وهدوء ونعطى للشيخوخة حقها، حينئذ يتجلى فينا جمال الغروب. اذا نزعت الروح عن الجسد لحظة الموت لم تنفصل مولولة صارخة ممزقة بأنياب رغبات لم تشف منها غليلا..» كما أن «حقي» وهو يتحدث عن اتقان الأداء وتجويد الصنعة يذكر «عليك اذا عزفت على العود ألا تسمع الناس خبطة الريشة، واذا كتبت ألا تسمع القارئ صرير القلم..».. ولكن «من يقرأ؟» و»من يتعظ؟» ونحن اليوم نسمع حولنا ليس فقط صرير القلم بل أصوات أخرى صاخبة وزاعقة.. منها النقيق والنهيق!! «..ان مشاطرة أحلامنا ما زالت هى المهمة الأكثر أهمية بالنسبة لنا» قالها الأديب اليابانى «هاروكى موراكامي» مضيفا»لا تستطيع أن تكون روائيا بدون احساسك بهذه المشاطرة». وقد تسلم «موراكامي» مؤخرا جائزة الكاتب الدانماركى العالمى «هانز كريستيان أندرسون» المخصصة لأدب الأطفال وللأعمال الأدبية التى تقترب من الأسلوب الحكائى أو السردى لأندرسون. «موراكامي» البالغ من العمر 67 عاما هو صاحب أكثر من 20 مؤلفا من روايات وقصص وقطع سردية ترجمت الى 50 لغة ومنها «الغابة النرويجية» و»كافكا على الشاطئ». ويقول «موراكامي» عن الذاكرة: «..أنا أعتقد أن الذاكرة أهم سند لنا نحن البشر.هى نوع من الوقود تحترق وتبعث بالدفء فينا. ذاكرتى مثل الدولاب به الكثير من الأدراج. عندما أريد أن أكون صبيا فى ال15 من عمره فاننى أفتح درجا بعينه وأرى المشهد الذى عشته عندما كنت فى كوبه. أستطيع أن أشم رائحة الهواء وأن ألمس الأرض وأن أرى خضرة الأشجار. وهذا هو السبب لماذا أريد أن أكتب كتابا.» ويذكر»عندما أكتب عن صبى فى ال15 من عمره أقفز وأعود للأيام التى عشتها فى ال15 من عمري». وبما أننا نعشق متعة السرد وحكى الحواديت نلتفت الى أقواله وهو يقول:»..كل مرة أكتب كتابا أضع نفسى فى ذوات أخري. لأننى أحيانا أشعر بالارهاق من كونى أنا. وبالتالى مع الكتابة أستطيع أن أجد هروبا من ذاتي. وهذا يعد خيالا. اذا لم تستطع أن يكون لك هذا الخيال. ماذا يعنى أن تكتب كتابا؟».. «وعندما أبدأ فى أن أكتب ليس لدى أى خطة على الاطلاق. فقط أنتظر أن تأتى الحكاية الي.وأنا لا أختار نوع الحكاية ولا ماذا سوف يحدث». «موراكامي» يرى فى السرد والكتابة مسارا وطريقا .. «مهمتنا أن نعطى معان جديدة وأبعادا مميزة للكلمات العادية والتعبيرات المعتادة»... ويذكرنا: «أعرف جيدا ماذا تعنى كتابة الروايات بالنسبة لي. ولأننى أريد عن أعبرعن نفسى يجب أن أصيغ حكاية. بعض الناس يسمونه خيالا. بالنسبة لى ليس خيالا. انه طريقة أخرى للنظر الى الأشياء» نعم، طريقة أخرى للنظر الى حياتنا ودنيانا والى رحلتنا مع الحياة ومع البشر من حولنا. الشاعر»محمد الماغوط» ينبه لمن يعنيه الأمر»فى أعماقنا رعد وبرق وعواصف وأمطار لا تشير اليها الأرصدة الجوية». فى حين يأتى الينا الشاعر «انسى الحاج» ليلتقط هذه اللحظة الحالمة الخالدة «.. يرقص حولها الهواء كما ترقص هى حول القلب. ينقبض الصدر لغيابها كما ينقبض لحضورها، الأوّل خوفاً من الوقت والآخر اكتئاباً من ضآلة الوقت. يقول جسدها الطافر إلى الحياة: أنا أنسى قبل أن أتذكّر...» ويأخذنا قطار الحياة الى الاسكندرية .. ونجد الروائى والقاص «سعيد سالم» يكتب في مجموعة «رحيق الروح»: «.. اختفيت عن الدنيا لأربعة أعوام متتالية فى شرنقة حب هو الطاغوت بعينه. لم يخطر ببالى من قبل أن أحب من جديد، ولم أسع إلى ذلك على الإطلاق، وإنما هى ألاعيب الزمن التى يعبث من خلالها بالمخلوقات ويتسلى بمراقبته لردود أفعالهم. رغم أننى كنت على وعى بتلك الملاعبة إلا أننى استسلمت لها تماماً بإرادتي، إذ بهرنى ذلك الحب الجميل ودفع بدماء الحياة فى قلبى وعقلى وأطرافى وأصبحت عيناى أكثر لمعاناً عن ذى قبل، وتضاعفت قدراتى على العمل والإنجاز. بعبارة أخرى لقد تحولت إلى إنسان فرح يمارس وجوده فى سعادة يأتى مددها المتدفق من وجود الحبيبة على قيد الحياة.» .. ثم يذكر: «كنت على يقين من أن ارتعاشة الحب الأول وبكارة الأحاسيس المتدفقة من نبعه يستحيل أن تتكرر. ضربات القلب المتدافعة ، ونظرات العيون الولهى ، وكلمات الود التى تقطر عسلا مصفى .. أشياء يندر أن تحدث فى حياة إنسان أكثر من مرة واحدة.. هاهى تتكرر أمامى الآن وربما فى صورة أجمل وطعم ألذ وأشهى وبهجة واثقة كفلتها سنوات التجربة» ............... ومثلما بدأنا رحلة اليوم ب«نجيب محفوظ» ننهيها أيضا به وهو يقول على لسان الشيخ عبد ربه التائه فى «أصداء السيرة الذاتية».. «اخفق يا قلبى واعشق كل جميل وابك بدمع غزيراذا شئت ولكن لا تندم».