الفترة التى تلت رحيل محمد رسول الله «صلى الله عليه وسلم» وحتى نهاية الخلافة الراشدة، تلك هى الفترة الثرية فى التاريخ الإسلامي, وهى التى اختارها إبراهيم عيسى لروايته الجديدة «رحلة الدم- القتلة الأوائل». ولم تزل هى أكثر فترات التاريخ توهجا ومازالت تفرض نفسها وتطارد خيالاتنا لنتجرع مراراتها وصدماتها إلى اليوم. تلك الفترة على ما فيها من صدمات، إلا أنها قدمت نماذج ومواقف إنسانية ثرية، يتجدد ثراؤها مع كل قراءة، فترد على القلب فتشعله وتقتحم العقل فتشغله وكأنها وقعت بالأمس القريب. وكان من الممكن أن يبدل إبراهيم عيسى عمله الروائى بكتاب يعتمد فيه على المصادر التاريخية نفسها التى استمد منها أحداث وشخوص روايته ويضع فى هامش كل صفحة مراجعه ومصادر دراسته التاريخية، وكان من الممكن أيضا، أن ينال من القبول والذيوع ما ستناله الرواية اعتمادا على ما حققه اسم صاحب العمل من شهرة وقدرة على إثارة الجدل. لكن عيسى اختار الرواية، وما هى بأوهن الشوكتين أمامه، فإنه كما هو معهود فيه، أن يختارها - وهى على ما لا يظن الناس- فهى السبيل الشائك الوعر، فكتب الأخبار التى وضعها المؤرخون وحققها الدارسون قد نقلت إلينا الأنباء، لكن أنى لها نقل الأجواء!. إنك تقرأ كتب التاريخ عند بن كثير والطبرى وبن الأثير والبلاذرى وابن عبد الحكم وغيرهما من القدماء والمحدثين، فترى الروايات تتري، بعضها يعارض بعض وما صدق منها أو ما كان محلا للشك، يحكمها الجفاف العلمى والجمود الأكاديمى الذى ينهك العقل ويدمى القلب!. الحقيقة التى قد تبدو ساذجة ولكنها حقيقية، فإن أجمل ما فى التاريخ هو أنه فى حقيقته حكاية, وما مصطلح الرواية فى الحقيقة، إلا مصطلح تاريخى فى الأساس والمنشأ، فعندما يقرر إبراهيم عيسى أن يحكى قصص فتح مصر والفتنة الكبري، بداية من حصار دار عثمان بن عفان «رضى الله عنه» وحتى مقتل على بن أبى طالب «كرم الله وجهه», فهو لا يسرد تفاصيل رواها بن أبى فلان عن أبى فلان عن فلان، لكنه عندما يتناول واقعة مقتل علي، فإنه يتسلل, بمنظور الروائي، إلى عمق شخصية قاتله بن ملجم وتاريخه المعلوم والمجهول، ثم يلج فى دهاليز شخصيته حتى يتقمصه، فنسمع صوت بن ملجم مع نفسه وخطيبته قطان وكذلك نتفحص ملامح عمرو بن العاص وعمر وجارية عمر ومحمد بن أبى بكر ونعثل وبن عديس وبن خديج. وعيسى هنا أتاح له الأدب الروائى مالم يتحه المؤرخ الراوى لنفسه؛ فالمؤرخ مقيد بأصول وقواعد تجعله حذرا فى سرد الواقعة ويقف عن حدود ما يسمعه، لكن للروائى أن يسعى وراء ما يشعر به وهو هنا قد أعفى نفسه مما كبل به المؤرخ نفسه به، فيكفى تحقق سند الرواية عنده ليطمئن قلبه، بينما الروائى يأخذ, من تقلب هذا القلب نفسه، مادة ثرية لإعانته على إعادة صياغة تلك المساحة الخفية فى شخصيات الرواية, وهو ما يحرمه المؤرخ على نفسه، لكن الروائى يستبيحها لأنها منفذه الوحيد إلى إدراك ما لا يدركه المؤرخ. فمسئولية الروائى التاريخية لا تقل عن مسئولية الراوي، بل تزيد عليها بتحمله وحده جرم ما قد يقع دون أن يعول على سلسلة رواه أو قائمة مصادر!. وعندما أورد إبراهيم عيسي, فى تنويه فى أول الرواية، مصادره التى استقى منها الأحداث قبل البدء فى الأحداث التى استغرقت 708 صفحات، كأنما أثبت حضورهم، مع التنبيه عليهم بألا يتجاوزوا هذه الصفحة، فغير مسموح بدخولهم هوامش حتى لايبدو وكأنه يدفع بذكرهم فيها تهمة عن نفسه، كما لم يؤخرهم إلى ثبت مراجع فى نهاية الرواية، لأن طبيعة العمل الروائى الفنية تتصادم مع هذا التقليد الأكاديمى الذى لا يناسب أجواء الرواية كعمل فنى مثل الرسم والموسيقي، تستمتع بهما دون شرح مكونات الألوان ولا سرد نوع آلات الموسيقي. هناك كثير من الحقائق تتكشف لديك عند مطالعتك الكثير من الأحداث عندما تعيش أجواءها الحقيقية, وهنا تتبدى قدرة الروائى الحقيقية، لينقلك إلى قلب الحدث لتعيشه سمعا ورؤية مع شخصيات مازالت نابضة فى حياتنا رغم مرور القرون. أثبتت رواية إبراهيم عيسى أن هذه الفترة التى حوت القتلة الأوائل و العظماء الأوائل فى عهد واحد، مازالت من بين فترات التاريخ الإسلامى التى لا نمل العودة إليها، رغم ما تبعها من أهوال على مدى التاريخ، لكن تلك الأحداث ظلت هى الأكثر جللا وإجلالا فى التاريخ كله. ستسمع وسترى أسماء عرفتها وسمعتها وأخرى لم تعرفها ولم تسمعها, وسيشرح لك المؤلف تفاصيل جاءت فى ثنايا الكتب عن صفات رجال ونساء وأماكن وديار يمكن ألا يلتفت إليها قارئها, وقد ينساها فى خضم الأحداث، إلا أنها هى ديكورات المشهد التى لايكتمل إلا بها. لقد حمل إبراهيم عيسى نفسه فى روايته حملا ثقيلا، عندما اقتحم كثيرا من الأحداث التى سبق أن طالعنا كثيرا منها مع العقاد وجورجى زيدان وطه حسين ومحمد حسين هيكل، لكنه أراد أن يكون مختلفا.. وقد كان. ....................................................... الكتاب: رحلة الدم المؤلف: إبراهيم عيسي الناشر: الكرمة 2016