فى مثل هذه الأيام قبل ستين عاما، شنت اسرائيل ومعها امبراطوريتان فى حينه، هما بريطانيا وفرنسا، عدوانا غادرا على مصر عام 1956، بينما لم يكن قد مضى على تطهير بلادنا من دنس آخر جنود الاحتلال البريطاني، الذى جثم على صدورنا نحو سبعين عاما، سوى أشهر قليلة.. دبر المعتدون الثلاثة خطة العدوان فى مدينة سيفر، وذلك عقب تأميم قناة السويس التى ادعوا بصفاقة، أن جمال عبد الناصر «قد سطا عليها». تاريخ البلدين الاستعمارى وتاريخ إسرائيل الدموى لا يحتاج الى تفصيل، فجرائم الدول الثلاث، موثقة ومعروفة، لكن، تتملكنى دهشة شديدة، حتى لا اقول استنكار، إزاء تعليقات تدفقت هذه الأيام تحكى عن «تهور» عبد الناصر فى ادارة شئون البلاد، تبريرا،لحروب الأعداء مع التلميح وأحيانا التصريح، بأنه أخطأ خطأ فادحا عندما وضع مصلحة مصر فوق أى مصلحة أخري. وعندما قرر واثقا من دعم الشعب، التصدى للطامعين واللصوص.. غير أن أكثر ما يحز فى النفس، هو تجاهل، دور الشعب المصرى وعزيمته الجبارة فى مواجهة العدوانين التاريخيين، فإبان العدوان الثلاثي، اسمعنا الغزاة المجرمين «دع سمائى فسمائى محرقة، دع قناتى فمياهى مغرقة، واحذر الأرض فأرضى صاعقة».. وترجم المصريون على أرض الواقع «آنا النيل مقبرة للغزاة،أنا الشعب نارى تبيد الطغاة،انا الموت فى كل شبر إذا عدوك يا مصر لاحت خطاه».. فلا أحد من هؤلاء «المعددين» أشار ولو من بعيد الى صمود الشعب المصري، وبطولات أبنائه، بل والأدهي، هو توجيههم اللوم، كل اللوم للقيادة المصرية وكأن مصر هى من شن العدوان على هؤلاء الوحوش الذين استخدموا أحط الأدوات والسبل لحملنا على الركوع، اعتمادا على تفوقهم الساحق فى السلاح، فيما انفردنا نحن بأقوى الأسلحة قاطبة، وهو سلاح الإيمان بالوطن. ولن ينسى التاريخ أن جمال عبد الناصر، عندما أكد من الأزهر الشريف أننا سنقاتل ولن نستسلم، فجرت الجماهير العربية جميع أنابيب النفط فى الوطن العربى من المحيط الى الخليج، وغدت القومية العربية ووحدة المصير العربي، واقعا ملموسا، مما أصاب الغرب وخاصة واشنطن بهلع حقيقى، ناهيك عن ذعر بعض الحكام العرب الذين أفزعتهم حركة الجماهير تلك، وزلزلت عروشهم المرتعشة، وفى هذه الحقبة تحديدا، تقرر عدوان يونيو عام 1967 فكانت هزيمة عسكرية ساحقة، هزمها شعب مصر الذى خرج، بالملايين، بعد دقائق معدودة من خطاب التنحي، معلنا مواصلة النضال ورافضا التنحى بشعار بالغ التعبير، مخاطبا عبد الناصر، «إحنا الشعب أصحاب الحق، لأول مرة نقول لك لأ». والمثير للغثيان، خاصة لمن هم من جيلى، أنه لا أحد ممن ينصبون سرادقات العزاء، حزنا وقهرا، لهزيمة يونيو، يحمل إسرائيل ومن يسلحها ومن يدعم عدوانها علينا أدنى مسئولية، فالنواح والعديد واللوم ينصب علينا نحن وتحميل عبد الناصر مسئولية حرب يونيو وكأنه هو، أو كأن ،مصر هى التى داهمت اسرائيل «السلمية، المسالمة». صمت تام ، بل خرس تام حيال عدوانية اسرائيل وانتهاكها لسيادة الدول، مع ازدراء وقفة شعب مصر فى التاسع من يونيو، وهى الوقفة التى قال خبراء عسكريون فى الغرب، إنها غيرت الاستراتيجية العالمية.. ويظل السؤال.. لمصلحة من ادعاء الحزن وذرف الدموع الكاذبة، دون أدنى إشارة إلى المعتدين وإغفال أهم نقطة، ألا وهى فشلهم فى تحقيق الهدف من عدوانهم الوحشي،الذى تفتت مساء ذات يوم، غير مجرى التاريخ.. وعلينا أن نسأل ذوى «القلوب الرقيقة المرهفة» فى موسم البكاء والعويل، وكأننا الدولة الوحيدة فى العالم والتاريخ البشرى كله التى تكبدت هزيمة عسكرية، ماذا لو لم يهب الشعب العظيم متصديا للمخطط العدوانى بدون أى أسلحة، اللهم إلا سلاح الإيمان بحقه فى العيش بكرامة، ورفض الذل الذى أراد لنا الأعداء وذيولهم وعملاؤهم، البقاء فيه؟ ولولا اننا هزمنا الهزيمة، هل كان من الممكن أن نذيق اسرائيل الويل بحرب الاستنزاف المجيدة؟ وهل كان للعبور العظيم، الذى رد لنا الاعتبار، شعبا وجيشا، أن يتحقق، لولا حرب الاستنزاف؟ لماذا إذن ، وتحت ادعاء الحُرقة على الوطن، يغمض هؤلاء المدعون حق الشعب المصرى فى الاعتراف بنجاح مقاومته الأسطورية الباسلة، حرصا على كرامته، فى مواجهة المعتدين وفى الوقت نفسه، لا يوجهون ولو عتابا بسيطا للطرف المعتدى، بل لا يأتون على ذكره أساسا؟ الإجابة واضحة. لمزيد من مقالات فريدة الشوباشى;