تمثل «الثقافة الشعبية» ملمحا بارزا لعبقرية الإبداع الجمعي، واعترافا بهذه الثقافة الي تحمل تراكم الخبرات والتجارب الإنسانية التي صاغها الأجداد والأسلاف فنا وأدب، وحكمة ومثلا، وموالا وزجلا، وفي رحاب عوالمها، وفضاءاتها الإبداعية والفنية والأدبية كانت فعاليات «الملتقى الدولي الأول للثقافة الشعبية العربية.. رؤى وتحولات» بمشاركة أكثر من مائة مفكر وباحث ومتخصص من 15 دولة عربية، ونظمه المجلس الأعلى للثقافة، بالتعاون مع المركز الحضاري لعلوم الإنسان والتراث الشعبي برئاسة الدكتور «محمد غنيم» بكلية آداب المنصورة، وافتتحه الشهر الفائت وزيرا الثقافة والتعليم العالي حلمي النمنم وأشرف الشيحي، بحضور الأمين العام للمجلس العلى للثقافة، ورئيس اتحاد الجامعات العربية دكتور سلطان أبوعرابي، ورئيس حلقة الحوار الثقافي ببيروت دكتور إلهام كلاب، ودكتور جابر نصار رئيس جامعة القاهرة، ودكتور محمد حسن قناوي رئيس جامعة المنصورة، في مركز الهناجر بالأوبرا. وفي كلمته أكد الدكتور محمد غنيم أهمية الحفاظ على تراثنا الضارب بجذوره في التاريخ، بعقد مثل هذه الملتقيات العلمية والثقافية، كحائط صد ضد ما تشهده المنطقة العربية من هجوم ومؤامرات، وأشار إلى ريادة مصر في هذا المجال الحضاري، وأهمية اضطلاعها مهما كانت التحديات. وأشار رئيس جامعة المنصورة إلى التفاتها لأهمية ما تمتلكه أمتنا العربية من تراث ضخم، ومتنوع، وأهمية الانتباه للمخاطر التي تهدد هذا التراث، وهو ما حدا بجامعة المنصورة لإقامة عدة مؤتمرات، وعلى رأسها هذا الملتقى الذي يشارك فيه عدد كبير من باحثي الدول العربية، ليكون الملتقى من حوائط الزود عن تراثنا الشعبي.وأشاد دكتور جورج سعادة بالعلاقات القافية التاريخية المصرية اللبنانية، وأهمية تخليص الثقافة الشعبية من الشوائب لأنها ضمير الشعوب، وأن الملتقى ضرورة في اللحظة الراهنة، وخطوة لترسيخ واقعنا الثقافي في مواجهة التدهور. وقال عصام الجوهري الأستاذ بالجامعة اللبنانية إن المؤتمر مناسبة مهمة للتعرف على الثقافات الشعبية الغنية لبلداننا العربية، وضرورة وقوفنا صفا واحدا على كل المستويات لتجاوز الحواجز المصطنعة على دروب الأمة. وعلى مدى ثلاثة أيام عقدت 13 جلسة بحثية لمناقشة أربعة محاور رئيسية، الأول منها «الجذور والعناصر المشتركة للثقافة الشعبية العربية»، والثاني «الهوية العربية والتحولات العالمية»، والثالث «الثقافة الشعبية العربية والقيم الانسانية»، والرابع « الثقافة الشعبية والشباب المعاصر». وعبر هذه المحاور عرض الباحثون أوراقا مهمة، منها ما قدمه محمود عودة واشتملت على تركيز رؤية الثقافة الشعبية في بعض نقاط تتعلق بالمفهوم ذاته، وهو مفهوم الثقافة الشعبية في مقابل ماذا؟ هل في مقابل النخبة أم الثقافة الشعبية أو الثقافة الجماهيرية؟ مؤكدا ضرورة أن الثقافة الشعبية «ثقافة شعب»، حيث يرى المثقفون أنها ثقافة طبقة بعينها في المجتمع، وهي التي نصفها بأنها «شعبية». وفي بحثه تناول جلال خشاب «الثقافة الشعبية.. الراهن والمتحول» تلك العبقرية الحاملة على عاتقها أمانة الإبداع والحفظ والرواية، وربما يحيط هذا الإرث من مخاطر شديدة تهدده بتيار العولمة الجارف، ويشير إلى رؤيته حول كيفية ترقية تراثنا الشعبي والعمل على استثماره في مجالات شتى، تبدأ من ثقافة الطفل وتنتهي بالعمران والاقتصاد. وشدد الدكتور جورج سعادة في بحثه «الفنون الشعبية والتحولات المحلية والدولية.. الزجل اللبناني نموذجا»، على ضرورة تضافر الفنون الشعبية مع الحركة الاجتماعية في مستوياتها المختلفة، فالصلة بينهما راسخة العمق، والعنصر الواحد لا تكتب له الحياة بذاته بل باتحاده مع عناصر أخرى، والتحولات في الفنون الشعبية واحدة من النشاطات الإنسانية المباشرة، وعطف على «مفهوم الزجل اللبناني بوصفه فنا شعبيا» يحمل خصائص تميزه عن غيرهن موضحا انه ظهر منذ القرن الخامس عشر الميلادي وكان له ومضات منذ القرن الخامس عشر الميلادي، وبلغ أوجه في ستينيات القرن الماضي، وظل قائما حتى نشوب الحرب اللبنانية 1975. وركز الدكتور محمد البيالي من السعودية، على خطورة فكرة العولمة وانتشارها في كل المجتمعات، وأشار إلى ضرورة انفتاح المجتمع السعودي على الثقافات الأخرى من أجل التغيير، مؤكدا وجود مظاهر مصرية سعودية مشتركة في الثقافة الشعبية، مثل المزمار كتقليد شعبي في البلدين. وقال خليل عودة في بحثه «الثقافة الشعبية بين الإقناع والإمتاع» أن الثقافة الشعبية مصدرا مهما من مصادر تكوين الشخصية وتشكيلها، لأنها الأساس الفكري والعاطفي الذي يستمد منه الشخص قيمته الأخلاقية والإنسانية وهي ترتبط ارتباطا وثيقا بالأسرة التي ينشأ فيها، والمجتمع الذي ينخرط في سلوكيا واجتماعيا، وهذه الثقافة الشعبية التي تعد مصدرا مهما من مصادر الحديث المتداول بين الناس تحمل كثيرا من التوجيهات التي تصبح مع مرور الوقت جزءا مهما من تكوين الفرد وتحديد سلوكه. أما «المأثور الشعبي في الأعمال الإبداعية.. عبد الله الطيب نموذجا» فكان موضوع الباحثة مي شحاتة التي أوضحت أن استلهام المأثور الشعبي في الأعمال الإبداعية أحد أفضل السبل للحفاظ على التراث من الاندثار في ظل التحديات، كما استعرضت مسحا وتحليلا لارتباط الشباب بالموروث الثقافي ومقارنته من الجانب المفاهيمي والفكري والفني للجيل المعاصر من الشباب، وإلى أي مدي يمكن أن تؤثر الثقافة الشعبية في الحركة الثقافية لهذا الجيل. وتناول محمد الجزيراوي من تونس «الحرف الشعبية في عالم متغير» في محاولة التركيز على رصد المتغيرات التي تمس الثقافة الشعبية وتحليلها وتقييمها وإبداء الرأي وطرح الرؤى حولها أمام المجتمع المدني وأصحاب القرار. واختتم الملتقى الذى عقد جلساته بين المجلس الأعلى للثقافة وكلية الآداب في مدينة المنصورة بعدد من التوصيات منها تكوين لجان قومية لجمع عناصر التراث الشعبي المادي وغير المادي، وتكوين رابطة للمتخصصين في دراسات التراث الشعبي العربي تضم الباحثين الوطنيين والمهتمين العالميين. وعمل أطلس تراث عربي وقومي، واستلهام التراث الشعبي العربي في أفلام الكرتون التي تقدم للأطفال العرب، ووضع مركز التراث الشعبي بجامعة المنصورة في تعاون مع اليونسكو العربية والدولية في مجال الحفاظ على التراث، وتدريب الباحثين في جمع ودراسة عناصره المختلفة. ودعم الدراسات المعنية بأهمية التراث الشعبي في الحفاظ على الهوية القومية العربية في مقابل التغريب والعولمة، وكذلك رصد الإبداع والتجديد في عناصر التراث الشعبي.