فاروق شوشة أحد أبرز الملامح المكونة للخريطة الثقافية في مصر والعالم العربي، كان يرحمه الله صاحب السيرة العطرة والخلق النبيل، الشاعر الكاتب الإذاعي اللغوي الباحث، الأنيق البهيج ذو الطلة الهادئة والحضور اللافت ، وتشاء المقادير البهية أن يحصل قبل رحيله على جائزة النيل، وهي أرفع الجوائز التي تمنحها الدولة لمبدعيها ومفكريها الذين أثروا حياتنا وأثروا في وجداننا، وقد كنا على يقين من أن الضمير الجمعي لمانحي الجائزة لابد وأن ينحاز للحق والقيمة، والحقيقة أن فاروق شوشة لم يفز وحده بالجائزة، وإنما فاز بها معه كل المبدعين الحقيقيين، وقد رأيت الكتاب يهنئون أنفسهم بهذا الخبر وكأنه يخصهم أكثر من فاروق شوشة نفسه. ................................... أول ديوان ظهر لفاروق شوشة هو "إلى مسافرة" والذي صدر عام 1966، أي أنه في هذا العام 2016 يكون قد مر على إصدار أول دواوينه نصف قرن كامل، وطوال هذه الفترة لا أظن أن يوما واحدا مر عليه دون شعر، قراءة أو كتابة أو تأملا أو إذاعة، الأمر الذي يجعلنا أمام رجل من الشعر والتفاعيل، كلامه موزون وخطواته راقصة ونظراته أخيلة ودلالات. لم تكن مصادفة أن يكون اسم القرية التي ولد فيها فاروق شوشة "الشعراء"، فالظروف كلها، المناخ والعائلة والطبيعة واسم المكان مهيأة تماما لصناعة شاعر من طراز فريد، وكما يقول باولو كويلو في روايته السيميائي "عندما تريد شيئاً ما، فإن الكون بأسره يتضافر ليوفر لك تحقيق رغبتك" نحن لا نستطيع أن نتعامل مع فاروق شوشة من زاوية واحدة، علينا أن نبتعد قليلا لنراه مكتملا من زواياه المتباينة، فهو جماع للرجل المثقف كما ينبغي أن يكون، اللغوي العارف لفلسفة الكلام، الإذاعي الفاهم لدور الإعلام، الشاعر الذي هو ضمير أمته ولسانها المنشد. المتابع للتتويجات التي نالها فاروق شوشة سيكتشف كم هي قليلة وشحيحة في مقابل ما قدمه لنا من نتاجات مضيئة، محليا لم ينل من قبل سوى جائزتي التشجيعية والتقديرية، وعربيا لم يحصل سوى على جائزة يماني، ودوليا لم يحصل سوى على جائزة كافافي، غير أن أهم وأكبر جائزة حصل عليها هي محبة الناس. إن هذه السنوات الثمانين من عمره جعلته يحسن الإمساك بمفاتيح الوجدان، وهذه الخبرة التي أوقفته على مشارف الحكمة، كل ذلك جعل قصيدته صافية خالصة مغسولة بالشعرية في غورها البعيد، ومشغولة بالصوفية والروحانية لكأنها محض حلم مذهب بالحنين: هبنى طرت وراءك يا عصفور النخل العالى مخترقاً حيطان فضائك أبحث عنك وأمعن كى أتقافز مثل لكنى أبداً لا ألحق بك وكأنك تقرأ ما أنويه وتدرك أنى منتظر لحظةَ سهوٍ منك وغفلةَ عين لكن هيهاتْ رادارك فى عينيك سريع اللفتة والإيماء ردة فعلك أسرع منى آلافَ المرات والكون جميع الكون أمامك محض نداءات تسمعها أنت ومحض فضاء المتتبع للمشوار الإبداعي للشاعر فاروق شوشة سيدهشه هذا الزخم الكبير، وما حيلتنا مع رجل يفعل فعل الرواد وينحو نحوهم، فهو شاعر وإعلامي ولغوي وباحث وأستاذ جامعي ومثقَّف ومثقِّف، وقد كنا نتابعه عبر الأثير أو على الشاشة الفضية فنقول لو انه يخفف من جهده بعض الشيء فيخلص للشعر إذن لكسبنا عددا أكبر من قصائده ودواوينه، فنحن نراه خلال ثلاثين عاما كاملةْ هي الفترة بين عامي 1966 و1996 يصدر تسعة دواوين ونراه خلال نصفِ هذه الفترة أي خمسة عشر عاما وهي الفترة من 1996 إلى الآن يصدر أكثر من أحد عشر ديوانا، وكانت المسافة الفاصلة بين الديوان وأخيه في الفترة الأولى تمتد لتصل إلى ست سنوات كاملة في بعض الأحيان وتقصر هذه المسافة في الفترة الثانية حتى أننا أصبحنا ننتظر منه ديوانا كل عام، وكأنه ينتقم من فترة العمل الوظيفي الثقيل، وصار الشعر خبزه وماءه وهواءه حتى أنه عندما تذكر وجوه صحابته كتب لوحاتهم شعرا مستفيدا من أطروحات الحداثة الشعرية في قصيدة النثر ومتكئا على التفاصيل الصغيرة ولغة الحياة اليومية وذكر السردي والعادي حتى أن كثيرا من القراء لم يفطنوا إلى أنهم يقرأون شعرا، وهو نفس الفعل الذي كان يقوم به في الآحاد المتراتبة على صفحات الأهرام حيث يكتب فصولا شائقة من سيرته الذاتية شعرا، هو نفسه الذي سبق له من قبل أن أصدر "عذابات العمر الجميل" والذي أتيح له أن يطالع هذا الكتاب ستستوقفه ملحوظة أساسية على غلافه، حيث كتب تحت عنوان الكتاب بين معقوفتين "سيرة شعرية" لكن القاريء للكتاب سيكتشف بعد فراغه منه أنه سيرة نثرية وليست شعرية فهو يحدثنا نثرا عن التجائه لشجرة يقعد فوقها ليقرأ وعن دور أمه في حياته وعن الأحوال الشعرية في خمسينيات القرن الماضي وعن إصراره على العمل بالإذاعة حتى لو كلفه الأمر دفع مصروفات عام دراسي كامل لوزارة التعليم وعن نظرة لويس عوض له ولشعره بإجحاف وظلم، ويبدو أن فاروق شوشة كان يحلم أن يكتب سيرته شعرا فخط قلمه الباطن على الغلاف هذه الجملة غير الحقيقية، حتى حين يملك وقته كله ويتحرر من أغلال مواعيد الكاميرات المنتظمة يحقق حلمه القديم فيكتب سيرته شعرا، ولم لا وقد أصبح الشعرُ السيدَ الوحيد الذي لا يخدم أحدا غيره ولا يرى سواه، هو يحبه حتى البكاء، ونراه أمامه مرتجفا كالعاشق في حضرته مولاى الشعر اغفر لى أنى قد جئت بلا استئذان ووقفت ببابك أدخل أم لا أدخل يبهرنى ضو تَغشَى عيناى فلا تريان. حزننا على فاروق شوشةهو حزن على غياب كل القيم التي يمثلها وجوده بيننا، الإخلاص والدأب والصدق والمعاناة والحق والنبل والخير والجمال