«لن نلتقى ثانية» .. كانت هذه آخر جملة قالها ميخائيل جورباتشوف السكرتير العام للحزب الشيوعى بالاتحاد السوفييتى السابق خلال اجتماعه مع الرئيس الأمريكى رونالد ريجان فى مدينة ريكيافيك الآيسلندية فى 11 أكتوبر 1986، وذلك بعد فشل التوصل إلى اتفاق حول نزع السلاح النووى بين القوتين العظميين خلال حقبة الحرب الباردة. ومع حلول الذكرى الثلاثين لهذه القمة خلال الشهر الحالى بين ريجان وجورباتشوف، فإنه لا يمكن لكل من واشنطنوموسكو إنكار أن هذا اللقاء الأخير، كما قال الزعيم السوفييتى السابق، كان السبب فى توقيع اتفاقية حظر الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية، وأيضا اتفاقية «ستارت -1» التى حددت عدد الرؤوس النووية فى كل من البلدين بحوالى 6 آلاف رأس نووية فقط، وذلك بسبب أن الاتحاد السوفييتى وقتها كان مستعدا لتقديم تنازلات لمنع حرب نووية فى العالم، فى الوقت الذى رفض فيه ريجان التخلى عن برنامج مبادرة الدفاع الاستراتيجية، والذى كان سببا فى فشل لقاء «ريكيافيك». وبعد 30 عاما من هذه الانفراجة التاريخية كما وصفها جورباتشوف، شهدت العلاقات بين الدولتين منذ 4 سنوات تحديدا، وبعد عودة الرئيس فلاديمير بوتين مجددا إلى الكرملين فى 7 مايو 2012، تدهورا يصل إلى مستويات جديدة مما يمكن وصفه بحرب باردة ثانية. بوتين أكد، خلال كلمة أمام منتدى «روسيا تنادي» الأربعاء الماضي، إن بلاده قلقة بسبب تدهور العلاقات مع الولاياتالمتحدة، لكن هذا لم يكن اختيارا روسيا. الرئيس الروسى يرى أن سياسات نظيره الأمريكى تقوم على سياسة «الإملاءات» و«الشروط» لا على الحوار القائم على البحث على حل وسط عملي، وبدأت مساحة الخلافات بين الدولتين تتسع مع مرور الوقت، سواء بسبب الأزمة السورية أو الدرع الصاروخية فى بولندا، وكذلك الأزمة فى أوكرانيا وصولا إلى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث اتهمت إدارة الرئيس باراك أوباما موسكو بالتدخل فى اختيار رئيس أمريكا القادم. كما تحولت سوريا إلى أرضية لصراع لا ينتهى بين الدولتين، فلا يصمد اتفاق للهدنة، ولا يتم التوصل إلى اتفاق خلال ماراثون الاجتماعات بين وزيرى الخارجية الروسى سيرجى لافروف والأمريكى جون كيري، وتنفى روسيا أن يكون الهدف من تكثيف التدريبات العسكرية والتواجد الروسى فى الشرق الأوسط التحضير لأى حرب، وأكد وزير الدفاع الروسى سيرجى شويجو أن الغرب يروج لمقولة «حرب باردة جديدة». وخلال الأسبوع الماضي، قامت روسيا باتخاذ عدد من الخطوات، التى فسرها الغرب بأنها تصعيدية، ومنها تأسيس قاعدة بحرية دائمة فى ميناء طرطوس السوري، وبدء مناورات عسكرية فى المنطقة، ونشر منظومة «إس 300» الصاروخية، لكن الحدث الأكبر كان تقريرا إعلاميا عن أن بوتين أصدر أمرا غير رسمي بعودة كبار المسئولين الروس وعائلاتهم المتواجدين فى الخارج إلى الوطن الأم، دون أن تقدم موسكو ردا على ذلك أو حتى توضيحا الأسبابه، فى الوقت الذى بدأ فيه الحديث عن اقتراب تصعيد عسكرى وحرب عالمية ثالثة على الأبواب حيث تم تدريب 40 مليون روسى على الاستعداد لحرب. ربما يكون ما حدث منذ 30 عاما فى «ريكيافيك» يقدم تفسيرا لما يحدث الآن. التعنت الأمريكى ما زال قائما، لكن الفرق أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة قبل انهيار الاتحاد السوفييتى اعترفت بأن هناك قوة عظمى ثانية أمام الولاياتالمتحدة، فى حين ترفض إدارة أوباما هذا الطرح، وتصمم على أنه لا يوجد سوى قوة عظمى واحدة فى العالم. جون سويرز رئيس جهاز المخابرات الخارجية البريطانية السابق حذر من أن العالم يواجه تهديدات تماثل مستويات حقبة الحرب الباردة، بسبب الحرب فى سوريا، وعدم إدراك التطور الذى أحرزته القوة العسكرية الروسية، وعدم إدراك الغرب أن ميزان القوى فى العالم تغير بسبب ازدياد القوة العسكرية الروسية وازدياد عزمها على استخدام هذه القوة. وفى الوقت الذى ترى فيه واشنطن أن النظام العالمى الجديد يعنى تربعها على عرش العالم كقوة وحيدة، ترى موسكو أن النظام العالمى الجديد يعنى تعدد الأقطاب والقوى. وعلى الرغم من استمرار واشنطن على هذا النهج، واستخدامها حلفاءها فى الضغط على روسيا عبر فرض مزيد من العقوبات على روسيا منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية وضم القرم، تغلبت «لغة المصلحة» على الاتحاد الأوروبي، أقوى حلفاء الولاياتالمتحدة، حيث وضع 5 مبادىء أساسية لتطبيع العلاقات الثنائية الأسبوع الماضى تتضمن التطبيق الكامل لاتفاقيات مينسك كشرط أساسى لأى تغيير فى العلاقات مع موسكو. أما الشروط الأخرى فتتمثل فى دعم علاقات الاتحاد الأوروبى مع الشركاء فى شرق أوروبا وتعزيز الاستدامة، كما وافق على أن أى تعاون بين الجانبين يجب أن يكون قائما على المصالح الأوروبية. وأخيرا تناول المبدأ الخامس الحديث عن الحاجة لدعم المجتمع المدنى فى روسيا ودعم الروابط بين الشعبين الأوروبى والروسي. وتظل احتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة يحددها من سيدخل البيت الأبيض، وهل ستستمر سياسة المواجهة والتصعيد التى نشبت خلال الإدارة الديمقراطية الحالية؟ أم سوف تتجه إلى سياسة وفاق واعتراف بأن روسيا قوة عظمى فى عالم متعدد الأقطاب، وهل سيكون هناك «لقاء ثان» بين الجانبين، لكنه قائم هذه المرة على أساس هذا الاعتراف؟