قرار الدكتور جابر جاد نصار رئيس جامعة القاهرة بإزالة السؤال عن ديانة الشخص في الأوراق المتداولة بالجامعة يستحق الإشادة، ليس فقط لجرأته، ولكن أيضا لسرعته، حيث إنه جاء لمواجهة مشكلة حدثت في معهد الدراسات والبحوث الإفريقية فجاء بصيغة التعميم. وإذا كنا نشكو كثيرا من غياب القيادات القادرة على اتخاذ القرارات، ولا تعتصرها الحسابات المقيدة للإرادة، فإن الأمر يصبح في ذاته نموذجا يٌحتذى. القصة بدأت، كما علمت من صاحبها- وهو شاب مسيحي- في منتصف الأسبوع الماضي، عندما سعى للالتحاق بالدراسات العليا بمعهد البحوث والدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة، إلا أنه لم يوفق في المقابلة الشفهية التي أجريت معه. مسألة بالنسبة لي تبدو عادية أن يسعى المرء إلى شىء لا يدركه في النهاية، ربما لأن المنافسة ومحدودية أعداد الطلاب المقبولين تحول دون تلبية رغبات كل الطلاب المتقدمين. ولا أميل عادة في مثل هذه الأحوال إلى ترجيح العامل الديني في الاختيار من عدمه ما لم تكن هناك شواهد قوية على ذلك حتى لا يُتخذ الأمر بمثابة «شماعة» نعلق عليها اخفاقاتنا في الحياة. لكن الأمر المدهش هو استمارة التقديم ذاتها والتي ورد فيها ما يثير كل الهواجس والشكوك وهو السؤال عن «الديانة» والأكثر من ذلك النص على (إذا كان مسيحيا يذكر الطائفة والمذهب). لم أصدق الطالب في البداية لأني لم أكن أتوقع أن تصل «السماجة البيروقراطية» إلى هذا الحد وهو البحث عن طائفة ومذهب طالب في بلد لا تنتظم العلاقات بها على أساس الطوائف الدينية والمذهبية، فضلا عن أنه لن تفيد الإجابة عن هذا السؤال في معرفة أي شيء مفيد على أي وجه من الوجوه. شيء لافت بالطبع.فإذا كنا نؤكد ليلا ونهارا خطاب المواطنة في الدستور، ونخوض معركة إزالة مسببات التمييز في المجتمع على كل المستويات، ليكون مجتمعا استيعابيا لكل مواطنيه خاليا من كل من يهدد المساواة، فهل نحن بحاجة إلى الدخول في مستنقع الطائفة والمذهب في بلد حرص طوال تاريخه رغم كل المنعطفات والصعاب على وحدته؟. قرار رئيس جامعة القاهرة في هذا الشأن مهم، ولافت، وذو مخزى. ولكن هذا لا يمنع من طرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية التي تتصل بنمط الإدارة ذاتها. أولا: لماذا يُنص أساسا على بند «الديانة» في استمارة قبول طالب بالدراسات العليا بجامعة مصرية عامة، فإذا كان التعليم «خدمة عامة» تقدم لكل المواطنين الراغبين في ذلك، فإن الإشارة إلى ديانة الشخص في ورقة من الأوراق المتداولة يناقض دستور الدولة ذاته الذي يقوم على المواطنة، والمساواة بين المواطنين بصرف النظر عن الاختلاف في الدين أو الوضع الاجتماعي أو النوع أو ما شابه. ثانيا: الاستمارة محل الأزمة في معهد البحوث والدراسات الإفريقية يبدو أنها منتج خاص، إي أنها في حدود علمي غير متداولة في بقية الكليات والمعاهد بجامعة القاهرة، وقد كنت يوما طالبا للماجستير والدكتوراه في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، ولا أتذكر أن قمت بملء استمارة بها أسئلة من هذا النوع. السؤال إذن من وضعها؟ وفي أي مرحلة؟ ولماذا؟ المساءلة هنا ضرورية ليس لمواجهة هذا الموقف، ولكن لمعرفة الثقوب الإدارية التي تنفذ منها إمارات التعصب والطائفية، ويترتب عليها تشويه صورة الدولة ذاتها. ثالثا: هل من حق كل معهد أو كلية أن يضع الاستمارة التي تحلو له؟ ألا يستدعي الأمر توحيد نماذج الاستمارات التي يُطلب من الطالب ملؤها ليس فقط على مستوى الجامعة ولكن كذلك على مستوى بقية الجامعات، وقد يكون هذا عمل المجلس الأعلى للجامعات، في إطار ضمان تحقيق الانضباط الإداري، والتعليمي، والاتساق البيروقراطي في كل الجامعات الحكومية المصرية. الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها مسألة مهمة لأنها تكشف عن كيف أن الخطابات «العليا» تؤكد مبدأ المواطنة بينما الأعراف الفاسدة تمارس على أرض الواقع. ومن دواعي الاستغراب أن يقابل قرار الدكتور جابر جاد نصار بامتعاض واعتراض بعض أعضاء مجلس النواب، وهو أمر لم يعد حقيقة بمستغرب هذه الأيام. فقد ذكر أحدهم أن خانة الديانة موجودة في كل الوثائق المصرية فلماذا نلغيها من الأوراق بجامعة القاهرة، وإثارة هذه المشاكل في هذا الوقت إثارة للبلبلة، والسؤال ما الفائدة من وجودها في استمارات وأوراق جامعية؟ والأنكى ما فائدة وجودها في الكثير من الأوراق الرسمية؟ الغريب أن صاحب هذا الرأي هو وكيل لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب، وكنت أتوقع أن يكون في مقدمة السعداء بهذه القرار لأنه ينتصر لحقوق الإنسان في المقام الأول. وصدرت آراء أخرى تتحدث عن الوطن الذي يواجه مؤامرات، وأنه من الأفضل الاستثمار في الشباب، إلى آخر الكلام الذي يعبر عن خلط بين موضوعات عديدة، وكأن قرار رئيس جامعة القاهرة يعزز المؤامرات أو يحول دون الإفادة من طاقات الشباب. خلط للأمور في غير محله، والخلاصة أن مشوار المواطنة لا يزال طويلا، لكنه بحاجة إلى قرارات جريئة مثل هذا القرار. لمزيد من مقالات سامح فوزي ;