في منامه كان يراها .. تطل من بين أوراقه, تقف منتصبةً في وجهه ، تشغل حيزاً كبيراً وسط الظلام . مع الوقت أصبح يراها أيضاً في يقظته كلما أغمض عينيه لثوانٍ، كأنما مجرد إطباق جفونه هو إشارة لها بالظهور والانطلاق من أغوار نفسه. والأدهى من ذلك أنه كلما أمسك بالقلم ليصيغ خبراً انحشرت بين أفكاره, رغم أنه يعلم ومنذ زمنٍ بعيد أنه لم يعد لها وجود أو أهمية فيما يكتب ... هي علامة دهشة كبيرة، تمني لو تنطق وتتكلم ، تحيره بقدر ما تشعره بأنها مثل صديق غاب عنه طويلاً واشتاق لرؤيته ثانيةً. هو لا يذكر تحديداً أخر مرة استخدمها في صياغته لأخبار قسم الحوادث. ربما كان ذلك في اليوم الذي صاغ فيه خبر الموسم :» الابن المدمن قتل والديه», أو ربما خبر انهيار برج سكني حديث بسكانه بسبب الغش في مواد البناء. أما علامة الدهشة الأولي, فخطها في كتابة أول خبر له, وكان عن متاجرة رجل أعمال شهير في الفراخ الفاسدة ولحم الحمير. وهو يتذكر الآن كيف تواردت بعدها أخبار عن مافيا الاستيلاء علي أراضي الدولة الزراعية وتبويرها ثم بيعها بأغلي الأثمان . مع الوقت أصبح عادياً أن يكتب عن مثل تلك الحوادث وأن يصحو قراؤه وينامون عليها. وبعد ان كانت تحتل الصفحة الأولي من الجريدة انتقلت إلي صفحة الحوادث ، ثم من صدر هذه الأخيرة إلي ذيلها، ومن عمودها الرئيسي إلي أعمدة يكاد لا يلحظها القارئ لأول وهلة و... لم يعد مستحباً وضع علامة دهشة أمام عنوان كل خبر منها أو عند ذكر تفاصيله. أما منافستها لبعضها البعض في فظاعتها فتجعلك تحتار في أيّ منها تستخدم تلك العلامة. وعندما عين رئيساً لقسم الحوادث كان فوداه قد اشتعلا بالشيب ، ووقتها أصبح يتحرك كالمنوم مغناطيسيا أو كدمية في مسرح العرائس ، يؤدي عمله بحرفية ولكن بأسلوب روتيني يخلو من حافز الإبداع . لم يعد يهمه نوع الخبر الذي سينشره أو ما قد يتضمنه من فظاعة أو بشاعة؛ فقط يهتم, ككثير من رؤساء أقسام الصحف, بنزول الخبر صحيحاً وفي موعده وسلامة صياغته صحفياً. أما ظهور علامات الدهشة له في يقظته ومنامه فقد سبقها وربما مهد لها ظهور أعراض أخري حيرته: فقد بدا له جلده كأنما فقد الإحساس بالمؤثرات المختلفة، علي أن دوامة الحياة والعمل لم تترك له فرصة لزيارة الطبيب، وعندما فعلها .. استجاب لطلب عمل التحاليل والإشعات, وعندها جاءت النتيجة سلبية. فالجلد سليم من الناحية الفسيولوجية ، وعندما ذهب لتغيير نظارته الطبية خطر له خاطر بدا له مفزعاً وهو أنه ومنذ سنوات طويلة لم يعد يذرف دمعاً من عينيه لأى سبب كان ، حتى عندما جاءه خبر وفاه صديقة العزيز فجاءة في حادث سيارة .وفي أخر زيارة للطبيب قال له الأخير: أنا رأيي إنك تاخد أجازه وتروح أي حته علي البحر تنعشك وتريح أعصابك استجاب لاقتراح الطبيب ، وعلي شاطئ البحر رآهم ... أطفال وصبية ما بين الخامسة والعاشرة من العمر يلعبون ويلهون في مرح وحبور، يتوقفون أحياناً لمشاهدة صائد سمك ، يتابعون عمله كأنما يشاهدون فيلماً شائقاً، يضحكون ويصرخون ، يصفقون بحماس كلما نجح في اصطياد سمكة، يواصلون بعدها لعبهم بنفس الحماس ، يندهشون ويفرحون لرؤيتهم لمنزل بناه زميلهم علي الرمال . وأخيراً رأي الأطفال وهو يقررون تشكيل فريقين للعب الكرة ، عندها خطر له أن يفعلها دون تخطيط أو تدبير، وبعفوية كاملة تقدم اليهم وانحنى بقامته الطويلة نحوهم ، وعلي وجهه ابتسامة صافية وهو يقول : تيجوا نلعب سوا؟!