يمشى عم كمال بتؤدة، كأنه يعدّ خطواته. كأنه يدّخرها لأيام، فى المستقبل، تعزّ فيها الحركة. أراقبه، هو وكرمشة وجهه، منذ 3 سنوات. لم يطرأ عليه أى تغيير. انحناءة الظهر كما هى، والجلابية الرمادية وكلمة «الحمد لله» تخرج ممطوطة من فمه الخالى من الفضول والأسنان، رداً على أى سؤال عن الأحوال. لم أسمعه يشكو قط ، هو الذى يحمل على ظهره 70 عاماً ويعول همّ ابنة مطلقة وحفيدة منها وهمّ شارع بحاله وهمّ ولد معوق وآخر عاق. على الفطرة يعيش عم كمال. لا تشغله الوجبة القادمة، فضلاً عن الغد. قال لى بثقة وفرح طفولى.. «إمبارح لم يكن معى قرش صاغ. وفجأة زارنى صديق قديم، لم أره من سنين، أعطانى مائة جنيه ومشى لحال سبيله». حياة عم كمال، وهيئته نفسها، مرتجلة. أو إن شئت قل: متوكلة..هو يحرس البيوت والمحلات ، يحمل مفاتيحها، حتى فى وجود أصحابها، والسماء تدير يومه. من صمته وكتمانه، وأمانته قبل أى شىء آخر، يستمد عم كمال قوة تأثيره وحضوره فى شارع محمد أبو زيد بالمقطم. أما أجمل ما فى الأمر فهو أنه يسقى النخيل المزروع على جانبى الشارع، وكلما ذبلت نخلة اكتست ملامحه بالحزن كأنه فقد واحدة من عائلته ولا يبقى سوى أن يقيم لها سرادق عزاء. وهو يرضى بالقليل لا تكلفك الخدمة، يؤديها لك، كأن يحمل عنك حقيبة ثقيلة أو ترسله لمشوار، سوى أن تضع فى يده ما تيسر، وبعد تمنع حقيقى يأخذ منك ما تعطيه دون أن ينظر إليه ثم يدسه فى جيب جلابيته التى لا يغيرها فى الشتاء أو الصيف. لم أر قط شخصاً يملؤه الرضا كهذا الرجل. حتى إن كثيرين يستغلونه فى مشاوير طوال اليوم ولا يناله منهم غير كلمة «شكراً يا عم كمال». ورغم أنه اختلف إلى المدرسة 6 سنوات كاملة فى بنى سويف، التى ولد بها عام 1948، إلا أنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولا يعرف فاتن حمامة ولا السجائر، ولا يشاهد التليفزيون، لا يملك تليفزيون أصلاً، ولا يسمع الراديو. لا شىء يربط «عشّته» بالعالم سوى الليل والنهار اللذين يتقاسمهما كل الناس. وأنه حىّ، رغم إغماءات السكر التى تنتابه من حين إلى آخر . وإن كان يعرف، لا أدرى كيف، أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالناصر وحسنى مبارك والسيسى ويحب الشيخ الطبلاوى. يقول عن عبدالناصر. « وكلنا»..أى جعل الفقراء يأكلون، « وجعلنا مثل الأغنياء»، ثم أردف بحسرة: « كنا نستأجر فدان الأرض على أيامه ب 300 جنيه فى السنتين، الآن أصبح إيجاره 7 آلاف جنيه». ثم إنه لا يعرف كيف أنقذ السيسى مصر ، لكنه يقول عنه إنه» حمانا». وعن مبارك..» كان كويس لكنه ساب ( أى.. ترك ) البلد لابنه ومراته»!! ومعه، فى العشة، ذكرياته. تربطه هى الآخرى بالعالم..قال لى عن طفولته: لم أعرف غير « الفلاحة» فى أرض الناس. منذ أتى من بنى سويف إلى القاهرة فى عام 1990م والدرب لم يتعرج تحت قدميه. لا شىء يؤرقه ويصيبه بالمرارة سوى خيبته فى ولديه. لكن «هاجر»، حفيدته التى رباها وعلمها، تعزيه عن أى حسرة، وتعزيه أيضاً تلك الرغبة القديمة التى لا يعرف إلى الآن كيف يمكن أن تتحقق وهى أن يزور قبر النبى ويسلم عليه، لا يعرف كيف يمكن أن يحدث ذلك، لكنه اعتاد على أن ينتظر.. أن « يربى الأمل»، ذلك أن «عم كمال»، بانتظاره، بالتراب الذى يعلو أكتافه، وطاقيته المتجهة دائماً للسماء، بأصابعه المعوجة ، كله على بعضه، مثال على أن « القدر يوجه من يرضى ويجرجر الساخطين». الرضا هو حظ القلوب المتوكلة.