على عبد الباقى مؤلف الكتاب: المصرى يسبق دائما حكامه ونخبته المثقفة بأميال صلاح الدين الأيوبى ومحمد على وعبدالناصر أدركوا أهمية دور مصر الحتمى تحتمس الثالث «البطل الثعلب» .. إليه ينتمى نابليون وسعد الشاذلى وعبد المنعم رياض
لماذا نحن هكذا على ما نحن عليه، بخصالنا المحمودة أو سوءاتنا التى نتأذى منها وتؤذينا؟.. سؤال كبير يسعى كتاب «روح مصر» إلى الإجابة عنه، شارحا مفهوم «أُسود وثعالب»، وهو العنوان الفرعى للكتاب، موضحا أن العلم قد صنف الشخصية الإنسانية إلى نموذجين اثنين: أُسود وثعالب، بمعنى آخر غير المعنى المعروف عنهما لدى غالبية الناس، من قوة أو مكر. كما يوضح أين تقع الهوية المصرية من هذا التصنيف. وفى السطور المقبلة يكشف مؤلف الكتاب على عبد الباقى بالتفاصيل العلمية والتاريخية رؤيته.. حول روح مصر. فى البداية يقول المؤلف: .................................................................... صحيح أن لمصر هويتها المدموغة بها منذ آلاف السنين. إلا أن هذا الكتاب يهتم بما تعرضت له مصر من انعطافة حادة وخطيرة منذ عام 1974م عن مكتسبات ثورة يوليو 1952، ولو أن طائرة حربية فعلتها لاحترقت فى الجو ولتّفجّرَّ الدم من دماغ قائدها. فما الذى حفظ الدم فى دماغ مصر؟ روحها هى التى حالت دون تفجّر الدم فى أدمغة المصريين مثلما فعلت طوال تاريخها الطويل: حالتْ دون تفجره يوم غزاها الهكسوس، ويوم انتكست فى حرب 1967. واستردت روحها يوم نفضت عن نفسها الخنوع فى أكتوبر 1973 وعبرت المستحيل ويوم قامت بثورتين اثنتين فى عامين متتاليين، خلعت فيهما رئيسين.! وروحها تلك هى التى حفظت عليها تماسكها وقت ما عُرف ب «الغياب الأمنى» إثر الإطاحة بمبارك، ولو أن أى شعب آخر تعرض لمثل هذا الغياب لانقلب أفراده بعضهم على بعض ذبحا وتقتيلاً، واغتصابا. وتحولت عبارة «يسقط النظام» لديه إلى «فعل» فى ميدان التحرير إذ أمسك بالمقشة ينظف بها أرض الميدان، وراح الأولاد والبنات يكنسون الشوارع ويدهنون أرصفتها. وبهذه «الكلمة الفعل» يتقدم المصرى على حُكامه وعلى نخبته المثقفة، يسبقهم لعدة أميال، ثم يقف هنالك ينتظرهم فإذا لم يجدهم إلى جواره حدث لديه الإحباط، فتتحول حياته إلى نوع من السبهللة والفوضى، وإلى «كُلشنكان». وهذا هو السر فى فشلنا الدائم فى الأخذ بمبدأ «التراكمية» بمعنى أننا لا نبنى على ما قد أسسناه بالأمس، بل نهدمه ونعاود البناء من جديد، وما يكاد البناء يرتفع، حتى يأتى وزير جديد ليهدم ما أسسه الوزير الذى كان قبله لكى يبنى من جديد. وهكذا نظل فى محلك سِرْ.! ..وماهو السبب في ذلك؟ تجدين الدراما وقد تحولت لديه إلى نوع من التسلية لأنها لا ترقى إلى مخاطبة وجدانه بهذه «الكلمة الفعل» فلا هى غيرت من اتجاهاته، ولا من طرائق حياته. وهذا سرٌ آخر يفسر عدم التماهى بين المصريين وبين نخبتهم المثقفة، ولو أنك أتيتِ للمصريين بفلاسفة مثل «فرنسيس بيكون» و»فولتير» و»روسو» فلن يستطيعوا إعادة صياغة العقل المصرى مثلما نجحوا مع الفرنسيين، إلا إذا لبّت كتاباتهم وأفكارهم ما لدى المصريين من مخزون حضارى يقوم على عنصر «الكلمة الفعل». فروح مصر هى التى جعلت من الكلمة لدى المصريين القدماء هى (الكلمة الفعل) فتسنى لهم إنشاء حضارتهم التى ما تزال تدهش العالم بأسرارها. الكلمة صارت فعلاً لديهم حيث انعكست على أخلاقهم وطرائق عيشهم. لكن كيف انعكست روح مصر على أخلاق المصريين؟ تلاحظين أن فجر الضمير بزغ أول ما بزغ هنا فى مصر الكلام ليس لنا وإنما للمؤرخ الشهير «بريستد» والمصرى القديم هو الذى جدل الفن بالدين فى ضفيرة متمازجة، وهو الذى أصبغ ديانته بصبغته فجعلها ديانة محبة وحبور واحتفالات، هذا هو الذى ما زلنا نراه حتى اليوم فى موالد الأولياء. وكان لدى المصرى القديم حس عالى بمعنى العدالة التى أسموها «ماعت» وهى مرادفة عندهم أيضا لمعنى الحق. ويورد هذا الكتاب شكاوى الفلاح الفصيح التسع التى تهز كيان أى طاغية. اسمعى معى بعضا مما قال وأنّ به: أليس من الخطأ ميزان يميل، وثقالة تنحرف، ورجل مستقيم يصير معوجا؟ تأمل، إن العدل يفلت من تحتك. ذلك لأنه أُقصى من مكانه. فالحكام يشاغبون، وقاعدة الكلام تنحاز جانباً. والقضاة يتخاطفون ما اغتصبته. وهذا يعنى أن من يقلب الكلام عن موضع الصواب، فإنه يحرّفه عن معناه. وبذلك يخور مانح النفس على الأرض، وذلك الذى يأخذ راحته يجعل الناس يلهثون، والمُحكّم أو مقسّم الإرث يصير مُتلفاً، وسيد الحاجات يأمر بصنعها، والبلدة تكون فيضان نفسها، والمنصف يخلق المشاغبة! واستمر الفلاح الفصيح قائلا: «إذا كان كيّال أكوام الغلال يعمل لمصلحة نفسه، وإذا كان الذى يجب عليه أن يقدم حسابه تاما، يقدمه لآخر يسرق متاعه، وإذا كان الذى يجب عليه أن يحكم بمقتضى القانون يأمر بالسرقة، فمن ذا الذى يكبح جِماح الباطل إذاً؟ وكان المصرى القديم يستشفع لنفسه ساعة الحساب بأنه لم يبصق فى ماء النهر. والعدالة عندهم كانت هى أساس المُلك، ليس للحكام فقط وإنما للمحكومين أيضاً، لذلك ننظر بدهشة إلى ما كان يُلزم به الفرعون نفسه عند توليه الحكم، فيما يشبه القسم الجمهورى بتعبير عصرنا: تدّبروا كلماتى وتبينوا عباراتى، هأنذا أحدثكم فانصتوا لكلامى، أنا ابن «رع» ومن جسده وُلدت، على عرشه أجلس والبشر يغمرنى، لقد نصبنى ملكا وجعلنى على البلاد سيدا، بالخير أنصح وفى طريق السداد أمضى: احمى حمى مصر وأدافع عنها. ونحن نعرف أن الفراعنة كان لديهم العديد من الآلهة، فكيف لم يؤثر هذا على وحدة النسيج المصرى؟ لقد اخترع الفراعنة إلهاً خاصا بكل إقليم، وكانت آلهة غير متناحرة كما هو الحال فى بابل مثلا. كانت كلها ذات دِعة وسلام وبينها أواصر قُربى. وعندما أرادوا توحيد هذه الأقاليم فى دولة واحدة مركزية، اعترفوا بهذه الآلهة، لكنهم جعلوا إلها واحداً من فوقها جميعا وكانت هذه بمثابة «قفزة روحية» حيث أصبحوا لا يرون إلا إلها واحداً للكون كله هو الإله «آتوم» الذى أوجد ذاته بذاته، لهذا وصفوه بالقِدم، وبأنه هو الإله الواحد، لا أول له. وهكذا أصبح كل شئ يغتسل فى نور سماوى على حد وصف عالم الأنثروبولوجيا «ليزلى هوايت». فلكأن المصرى القديم قد اخترع آلهة صغيرة، ثم شفطها فى جوفه حين اعترف بها فى سبيل هدف أسمى وهو الوحدة، وعمل على ألا يؤدى تنوع الآلهة إلى التصارع بين أقاليم مصر. يخيل لى أن المصرى القديم حين فعل هذا إنما لأنه كان يريد أن يتفرّغ لغاية أسمى، هى إنشاء حضارته العريقة تلك على ضفاف النيل! كان الإنسان المصرى متدينا بطبعه إلى الدرجة التى جعلت أبا الأنبياء إبراهيم يأتى إلى مصر ومعه النبى لوط (عليهما السلام) ثم يغادر مصر ولم نسمعه يدعو المصريين إلى ما دعا قومه إليه فى بابل.! ولم يكن فرعون موسى سيمتنع عن تحقيق رغبته بالسماح له ولقومه بالخروج من مصر غير خوفه من أن يمسّ هذا ذلك التماسك الاجتماعى بأى خدش، لذلك قال له: «أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى» (سورة طه 17) قالها الفرعون لأنه توجّس منه خيفة وهو يلح فى الخروج بقومه، خاصة أن طعم الذل والمهانة ما يزال بذاكرة المصريين جراء غزو الهكسوس لهم، فخاف أن ينشأ تعاون ما بين اليهود وبين بدو فلسطين، الذين كانوا ما يزالون يثيرون المتاعب لمصر، ثم إن اليهود سيخرجون ومعهم أسرار المجتمع المصرى كلها. عندئذٍ كان لروح مصر أن تتوجس وأن ترتاب. وعلى عكس النبى موسى الذى هجر أعظم حضارة إلى البيداء، نرى النبى يوسف يتناغم مع روح مصر فتجعله وزيرا على خزائنها! وإذا عدنا إلى هذه التوفيقية بين الآلهة لرأيناها قد ورثّت السماحة للمصرى، لكنها لربما هى أيضا التى علمته «الفهلوه»! ثم أن المصرى القديم قد استفاد من موقعه الجغرافى المُحصّن فى توطيد أواصر هذا التماسك الاجتماعى، كما كان لديه ما أسماه عالم الاجتماع «دوركايم» بالتضامن الآلى الذى كان بمثابة ميكانيزم دفاعى مضاد للمحن والغزو الخارجى. واستخدمت «روح مصر» مثل هذا التوازن، و»التضامن الآلى» كى تحمى بهما وتصون للمجتمع المصرى هويته. وتسهل عليه إشكالية التكيف والتعايش مع بعضه البعض. فى الوقت الذى تُشبع فيه كمجتمع زراعى حاجته إلى الإنجاز والتعاون، وتعينه فى التغلب على عوامل التفكك والانحلال التى عانى منها فى فترات الاضطرابات والثورات، أو فى الفترات التى ضعفت فيها مصر لضعف بعض حكامها الذين تولوا أمرها بليلٍ أو عن طريق الصدفة. عرفت مصر كل ذلك منذ ارتأت ألا مفر من الاعتراف بجميع الآلهة المعبودة فى الإمارات المتنافرة، ثم جعلت من فوقهم جميعا إلهاً واحداً أعظم، فما عساها تكون غير «روح مصر» التى هدته إلى كل هذا؟ وإذا عدنا إلى العنوان الفرعى للكتاب وهو «أُسود وثعالب» فسنجد أن الأسود والثعالب هنا لها معنى آخر غير المعروفة به من قوة أو مكر. إنهما مصطلحان دشنتهما بعض المحاولات السوسيولوجية التى أرادت تفسير الشخصية الإنسانية على أساس ما بينها من اختلافات سلوكية ونفسية، سواء بين أفراد المجتمعات المتعددة أو بين الأفراد فى ذات المجتمع الواحد، فقالت: إن هناك نموذج الإنسان الهامشى أو البوهيمى أو المعارض أو المبدع. لكن ما يهمنا هنا من تلك التصنيفات هو ما ساقه عالم الاجتماع «باريتو Pareto» حيث صنف الشخصية الإنسانية إلى نموذجين اثنين: أُسود وثعالب. فأما الإنسان المتصف عنده بسمات الثعلب فهو الذى يتوفر فيه «راسب الربط والتأليف بين الأشياء»، وأما نمط «الأُسود» من الناس فهم على النقيض من «الثعالب»، حيث يتوفر فيهم «راسب دوام الارتباط بالآخرين». ومن ثم فهم أكثر تقليدية وميالون إلى السلوك الروتينى، فضلا عن افتقارهم للخيال. وعلى هذا، فتصنيف العالِم «باريتو» قد اُستخدم كى يفسر كل ما يطرأ على المجتمع من استقرار أو تغير، حيث أوضح أن على المجتمع أن يخلق قيادة قوية له تتمتع براسب «الربط والتأليف بين الأشياء» أى لديها القدرة على الإبداع والخيال الواسع على أن يتبعهم أفراد ممن هم من نمط «الأسود» أى دائبو الارتباط بالآخرين. ودلل «باريتو» على صحة ما ذهب إليه بأن الطبقات الحاكمة فى أغلب الحالات التاريخية لم تكن بالقدر الذى يمكنها من ضم بعض أفراد الطبقات المحكومة إليها ومشاركتهم إياها فى الحكم، ولعل هذا الموقف هو السبب الأساسى الذى يؤدى إلى نشوب الثورات، وإحلال الصفوة الجديدة محل الصفوة القديمة تتمتع براسب «الربط والتأليف بين الأشياء». ويظل هذا الموقف قائما دون نهاية مما يشكل ما أطلق عليه «باريتو» (دورة الصفوة). من كان «الأسد» ومن هو «الثعلب» فى كل تاريخ مصر؟ هناك أمثلة عدة فى الكتاب بالفعل لهذين النمطين، نكتفى منها بتحتمس الثالث كمثال على نمط «الثعلب»، ففور توليه الحكم، التفت باهتمام إلى ذلك العصيان الذى بدأ يزداد ضد نفوذ مصر فى بلاد الشام والذى لم تكن تهتم به الملكة حتشبسوت من قبله مباشرة فى الحكم. ولما كان متيقنا بأن فلول الهكسوس هم من وراء هذا العصيان وأنهم جمعوا أنفسهم عند «مجدو». وهذا كان يمثل اعتداء وقتها على حدود مصر، وكان هو أحد الفراعين الذين أدركوا إلى أين يمتد «المجال الحيوى» لمصر، فعقد مجلس الحرب، وفى ذهنه احتمال غزو تلك الفلول لمصر ثانية. هنالك فى «القنطرة» رسم مع مجلس الحرب خطة الهجوم، ولم ينس إسناد توثيق وقائع ما سوف يجرى من معارك لبعض الكتبة، فعرفنا خططه وكيف حارب، وهذا على عكس ما لا نعرفه من حروب «أحمس الأول» لأنه لم يهتم بتدوينها. ولسوف يأتى «نابليون» فيقلد ذلك البطل «الثعلب» إلى درجة أن مؤرخى الحروب سيطلقون على «تحتمس» لقب «البطل النابليونى»، وكان الأصح أن يطلقوا على نابليون لقب «نابليون التحتمسى».! وتحتمس الثالث هذا هو أول من أنشأ ما نطلق عليهم اليوم «قوات المارينز» عندما أنشأ قاعدة بحرية على شواطئ سوريا كى تنطلق منها قواته إلى نهر الفرات مباشرة لتحقيق هدفى السرعة والمباغتة! وبعد أن أمنّ لمصر مجالها الحيوى عاد إليها حيث تفرّغ للبناء والتشييد. وإلى مدرسة هذا البطل الذى كان يتقدم جنوده ماشياً على قدميه لا ينتمى نابليون ومونتجمرى وحسب، بل ينتمى إليها أيضا، بعبقريتهما الحربية، كل من سعد الشاذلى، وعبد المنعم رياض رئيسا أركان الجيش المصرى الأسبقين. وكيف ننسى «رمسيس الثانى»؟ فقد كان من نمط الثعالب بجدارة بوعيه الكبير لأهمية المجال الحيوى لمصر. ..ومن هو الثعلب؟ إذا أردنا أن نضرب مثلا لنمط «الأسود» فسنجد الفرعون «أمنحوتب الثالث» خير مثال لذلك، فقد كان رجلا شهوانيا، يغترف من فيض اللذة والنعيم بقدر ما سمح له الثراء الواسع والجاه العريض. لم يشأ هذا العاهل العظيم، بما شيّد أو رممّ فى الداخل من معابد، أن يترّسم خُطىَ آبائه وأجداده أباطرة مصر الذين دوخوا العالم، ورأوا مجدهم فى الغزو وامتشاق الحسام. بل آثر حياة الدعة والمتعة، يقضى يومه فى الصيد، وليله فى أحضان الغوانى اللائى كان يستحضرهن من بلاد الشام.! كانت أقدار رجاله ومعاونيه تُقاس لديه بقدر ما يوفرونه له من الغوانى والمحظيات! لكن علينا أن نعرف أن الإنسان ذاته قد يتقلب بين نمطى الأسود والثعالب بحسب الظروف والأحوال، وبحسب نوع تفاعله مع معطياتها فلقد كان رمسيس الثانى ثعلبا يوم شن حملاته ضد «موتلى» ملك «خيتا» فى الشام الذى أراد الثورة على مصر، فسار إليه على رأس أربعة جيوش حتى وصل إلى شمال بيروت. كان معه جيش «آمون» بينما تتبعه بقية جيوشه الأخرى. اتجه شمالا متتبعا الشاطئ حتى وصل إلى شمال بيروت، ثم توغل إلى الداخل قاصدا نهر العاصى، وعندئذِ قبض جنوده على جاسوسين من بدو فلسطين (الشاسو) اللذين كان أرسلهما «موتلى» لاستطلاع تحركات الجيوش المصرية. وأثناء التحقيق معهما، قاما حسب خطة مسبقة بتضليل المصريين حيث أدليا بمعلومات خاطئة عن مواقع جيوش «خيتا» فقالا كذبا بأن جيوش «موتلى» قد تقهقرت إلى حلب عندما علموا بتقدم الجيوش المصرية، ولكن الحقيقة أنها كانت مختبئة وراء مدينة قادش منتظرة حضور جيوش مصر لملاقاتها. وارتأى «رمسيس الثانى»، بحسب هذه المعلومات المغلوطة، أن يسرع خلف عدوه بجيش آمون الذى معه، على أن تلحق به بقية جيوشه الأخرى. نسى الثعلب (بالمعنى الذى ذكرناه آنفا) أنه ثعلبا. استأسد، ناسيا قاعدة حربية مهمة وهى أن تجميع القوات المحاربة هو من أهم الأسس الحربية فى الميدان. وكان أجداده يحرصون عليها أيما حرص، ولكن تسرعه فى تقدمه وليس معه سوى جيش واحد فقط، وتصديقه لما قاله الجاسوسان، وعدم تنظيمه لإدارة مخابراته وسلاح استطلاعه كما كان يفعل «تحتمس الثالث» قد غرر به، وكلفه ثمنا غاليا. عبر «رمسيس الثانى» نهر العاصى، وعسّكر بجيشه فى الشمال الغربى من المدينة، ولم يكن يعلم أن ملك «خيتا» قد كمن له بجيوشه خلف التلال، وأنهم قاموا فى نفس الوقت بحركة التفاف وانسحبوا إلى ما وراء قادش على الشاطئ الآخر من النهر. فلما وصل جيش «رع» وبدأ فى عبور النهر، انتظر العدو حتى وصل بعض الجنود إلى الشاطئ الآخر، وعند ذلك هجموا على جيش «رع» هجوما مفاجئا فلم يستطع أن يلم شمله ويصمد للحرب، بل ولىّ الجنود عائدين إلى المعسكر المصرى، فحدث اضطراب كبير، ولم يكن فى وسع «رمسيس الثانى» إلا أن يحاول جمع شتات جنوده ليدافعوا عن أنفسهم ويصمدوا فى المعركة، ولكن الهجوم المفاجئ كان قد خلع قلوب جيشى «رع» و»آمون» الذى كان بمثابة الحرس الخاص للملك، وتخلى عن رمسيس أكثر رجاله فلم يرى بُداً من الاعتماد على نفسه، فاندفع بين المهاجمين، مما شجع جنوده على لم شملهم والعودة إلى القتال مرة أخرى، خاصة مع وصول نجدة لم يكن يتوقعها أحد وهى نجدة من الشباب الفلسطينيين المجندين التى وصلت إلى الميدان تحت إمرة الضباط المصريين، ووجدت حرج موقف رمسيس، فمالت على العدو ميلة واحدة فغيرت من سير المعركة وأنقذت رمسيس مما كان فيه، وبذا تفادى رمسيس وجنوده كارثة محققة. وقد تضعف روح مصر حين ينتشر الفساد، وحين تقوى هيمنة كهنة المعابد فتقوى أسباب الاضمحلال والتدهور، لكن كل هذا ليس إلا مظاهر لمرض عُضال، وليس إلا نتيجة لسبب آخر خفى هو تحول بعض ملوك الفراعنة من «ثعالبٍ» إلى «أسود» ارتضوا زمّ الماء، واستلّذوا حياة الدعة والاستقرار. فيكون قصارى جهدهم هو الحفاظ على ما بين أيديهم من مقومات دون بذل ما هو أكثر فى الحفاظ على ما تحقق من قبل من مقومات ومقدرات إمبراطورية كانت تفرد جناحيها على فرَخْ «المجال الحيوى». عندئذٍ يتشجّع الجيران فى آسيا شمالا، والليبيون غربا، والنوبة جنوبا على مهاجمة مصر واقتضام ما أمكنهم من جسدها الذى تعرى.! فالتاريخ يخبرنا أن ليس هناك ما يضعف مصر أكثر من تحول ملكها من خصائص «الثعلب» إلى خصائص «الأسد» الذى ينكفئ بها إلى هامش التاريخ مقتنعا بسياسة الممكن، بدلا من الالتفاف من حول هذا «الممكن» كى يصل إلى اختراق المستحيل. ينبئنا التاريخ أن «الثعالب» من نوعية «أحمس» و «سنوسرت الثانى» و «تحتمس الثالث» و «حور محب» الذى أعطى الأولوية لترتيب بيت مصر من الداخل قبل الانجرار فى حروب خارجية و «صلاح الدين الأيوبى» و«محمد على» و «جمال عبد الناصر» كانوا على بينة بمكانة مصر، وبضرورة استنهاضها للعب دورها (الحتمى)، وإلا لنزلت الميدان قوى إقليمية أخرى كى تتولى هى لعب دورها، لا نيابة عنها وإنما لكى تلعبه لصالحها هى، وعلى حساب مصر. وهو ما نشاهده الآن من حولنا بالفعل!