إلى وقت قريب كنا نعتقد ان التراث هو مادى كالأهرامات والمساجد القديمة أو لا مادى كالروايات الشفهية المتوارثة والاحتفالات الشعبية وغيرها. غير أن التطور التكنولوجى المتسارع فى العالم أدى إلى اتساع هذا المفهوم؛ فإلى سنوات ليست ببعيدة كانت الاختراعات تستغرق سنوات لتنتشر، وتصبح شائعة الاستعمال، أما الآن فالأمر قد لا يستغرق أياماً لكى نرى ابتكاراً أو اختراعاً جديداً متداولاً. هذا ما جعل مفهوم التراث ينسحب حتى على أدوات كان يستخدمها الانسان لسنوات قريبة، فبعضها اندثر استخدامه من حياتنا اليومية، فمن منا يتذكر أشكال التليفون المحمول فى اليد الذى ظهر فى تسعينيات القرن العشرين؟ إن متاحف تعكس التطبيقات العلمية وتطور التقنيات باتت اليوم ضرورة ملحة، لأن العرب لو صرفوا جانباً من اهتمامهم إلى مثل هذه النوعية من المتاحف من الآن ستكلفهم مبالغ بسيطة، بينما لو انتظرنا لسنوات أخرى سيصبح اقتناء مثل هذه المعروضات مكلفاً جداً، إذ سيلعب عامل الندرة دوراً فى تثمين هذه المجموعات المتحفية، كما أن جمع هذه المقتنيات يصبح أمراً عسيراً . هل لدينا رؤية استراتيجية لمتاحف المستقبل ؟ هذا السؤال أطرحه الآن، إذ إن تكوين هذه الرؤية سيجعل متاحفنا فى المستقبل تواكب المتغيرات الدولية، وتجعلنا نسبق الآخر فى تفكيره. فالمتحف يعكس طبيعة رؤية المجتمع للتراث و مفهومه له. من هنا فإن بناء المجموعات المتحفية، أمر حيوي. فإذا فكرنا فى متحف للسيارات سنفتتحه بعد عشرين عاماً، فإن علينا اقتناء الطرز القديمة المتاحة منها، وتكوين مجموعات من المتاح منها الآن، خاصة ان صناعة السيارات تشهد تطوراً متسارعاً على الساحة الدولية، فما بالك بأول سيارة اقتنتها شخصية وطنية واستخدمتها فى حدث وطنى كعيد الاستقلال، ستصبح قيمتها هنا مزدوجة، لارتباطها بحدث وطنى من ناحية، ولكونها تمثل جيلا من أجيال تطور هذه الصناعة. لذا فإن تخلص مؤسسات أى دولة عربية من كل ما هو قديم، يعد أمراً فى حاجة إلى مراجعة، أولاً لوضع مخططات لاقتناء هذا القديم للمستقبل إذا كانت لدينا رؤية لمتحف مستقبلي. بل إن الوقت يداهمنا جميعاً فى ظل التحول من الورقى إلى الرقمي. فكتبنا العربية المطبوعة منذ أن عرفت الطباعة الحرف العربى صارت تعد الآن من الأشياء النادرة. فأوليات المطبوعات العربية صارت بقيمة المخطوطات. هذا ما انتبهت له مؤسسات مثل مكتبة الاسكندرية ومركز جمعة الماجد فى دبى والمكتبة التراثية فى الدوحة. ولنذكر على سبيل المثال مجموعة مطبوعات بولاق المصرية، وأبرزها ألف ليلة وليلة، صحيح البخاري، تاريخ الجبرتي، القاموس الايطالى العربي، مجلة روضة المدارس، خلاصة الأفكار فى فن المعمار، الخطط التوفيقية.. وغيرها كثير. هذه المطبوعات أول ما تذكر ستدهش إذ ستجد أرقاماً لشرائها أكبر بكثير من ثمن مخطوط خط باليد فى القرن السابع عشر الميلادي. هذا يعنى أن ما لدى مكتباتنا من كتب مطبوعة يجب ان ننتبه له، خاصة ما طبع من كتب تعود إلى القرن العشرين، إذ بعد سنوات قليلة سنجد من نوادر المطبوعات الطبعات الأولى لمؤلفين من أمثال: نجيب محفوظ، عباس العقاد، جواد علي، عبد العزيز الدورى وغيرهم من رواد الأدب و العلم والفكر. هذه المطبوعات ستكون مستقبلاً موضوعات مطروحة لمتاحف تحكى تاريخ الكتاب العربى أو تقدم أبرز ما طبع لكبار الأدباء العرب، أو تروى قصة المعرفة لدى العرب فى القرنين ال 19 و20 الميلاديين. لذا فإن بناء مخزون متحفى مما نستخدمه اليوم مفيد حتى لبناء متاحف تشرح للأطفال تطور الأشياء، إذ إن هذا يساعد كثيراً على بناء العقلية العلمية لدى أجيال المستقبل، من هنا نستطيع أن نفهم لماذا توسع الأوروبيون والأمريكيون فى متاحف تاريخ العلوم والتكنولوجيا وجعلوها للأطفال بصورة أساسية، تبنى وتشيد لأجلهم، لأن هذه النوعية تجيب دون أن ندرى على آلاف الأسئلة فى داخلهم التى لا يبادرون فى طرحها، مثلاً حول الهاتف وتطوره وكيفية ظهوره. وهذه الإجابات العملية حول أسئلتهم تجعل قناعاتهم بدراسة الفيزياء والرياضيات والكيمياء وجدواها كمواد أكثر رسوخاً فى أذهانهم، فنبنى عبر مثل هذه المتاحف علم المستقبل. تتنوع اليوم المتاحف عما كانت عليه بالأمس، فهناك متاحف لكل شيء فى العالم، كالطعام والأزياء و الأحذية، حتى عدت جامعة لكل ما هو فى حياة الإنسان، فالمتاحف هنا تحكى قصص الأشياء. وهذه القصص تجذب حسب تنوعها مزيداً من الزوار و السياح، و هو ما ينعكس إيجاباً على الدخل الوطنى للدولة . فالجديد هو أن تكون هذه التحف قصة تُحكى حول عصر أو طريقة صناعة أو طراز فنى أو أسلوب حياة، بحيث يستطيع مرشد الزوار فى المتحف رواية قصة تجذب الزوار إليه، كأن نقدم قطعا تشكل أثاث منزل إسلامي، أو أسلوب حياة. هذا يعكس الذوق العام للمسلمين فى تأثيث منازلهم، الذى قام على تعددية وظائف الفراغ، وهو منهج عكس المفهوم الغربى الذى قام على تثبيت استخدام الفراغ لوظيفة واحدة، كاستقبال الضيوف أو النوم، ويبين اقتصاديات تأثيث المنزل الإسلامى . إن ما ينقصنا إلى الآن فى الثقافة العربية، ليس فقط بناء متاحف، بل بناء فلسفة عربية لعلم المتاحف، تبنى وراءها رؤية عربية للتعامل مع متاحفنا، تجعل منها مؤسسات تفاعلية علمية ثقافية. فنحن فى الوطن العربى نتعامل مع المتاحف على أنها مؤسسات مغلقة يقف أمناؤها فى انتظار الزوار القادمين، لا يسعون لجذب الجمهور و الأطفال، ورواية ما يقدمونه إليهم. لذا تجد المتاحف العربية معظمها لا يضم قسماً للعلاقات العامة وليست لديها أدلة للزوار أو مواقع رقمية قوية. كما أن الفارق بين بنايات المتاحف قديماً وحديثاً كبير. فقديماً كانت المتاحف يتخذ بنيانها شكلاً مستمداً من التراث، وأبرز أمثلة على ذلك ثلاثة من أكبر المتاحف العربية وهي: المتحف المصرى فى القاهرة ومتحف الفن الاسلامى فى القاهرة والمتحف اليونانى الرومانى فى الاسكندرية. وهى من أوائل المتاحف العربية. أما الآن فبنايات المتاحف وقاعات العرض أكثر بساطة، إذ تركز على المعروضات إضاءة خافتة مدروسة تكشف القطع المعروضة وسيناريو العرض بطريقة بها درجة عالية من الجاذبية. كما تتكامل مع هذه المتاحف الافتراضية على شبكة الانترنت التى تعرض القطع بأبعادها الثلاثية. كان المتخصصون فى أول الأمر يرفضون عرض مقتنياتهم فى متاحف افتراضية، لكن مع الوقت أثبتت التجربة أن المتاحف الافتراضية تجذب المزيد من الجمهور للمتاحف الحقيقية، إلى درجة أننا نرى الآن تكاملاً بين العديد من المتاحف لجمع المجموعات المتناثرة فى مواقع افتراضية واحدة. على سبيل المثال إذا كان لدى متحف فى بريطانيا قطع من حضارة السومريين, وفى متحف فرنسى وآخر يابانى ورابع أمريكى قطع من ذات الحضارة، فإنه يتم جمع هذه القطع فى متحف افتراضى للحضارة السومرية. هذا ما يفيد الباحثين ودارسى التاريخ والحضارة الإنسانية. هل للعرب مستقبل فى عالم المتاحف ؟ لقد بدأت الجهود العربية تلتئم فى هذا المجال بعد تأسيس المجلس العربى للمتاحف (الأيكوم العربى ) الذى يضم أبرز المتخصصين فى هذا المجال لتنسيق الجهود وكذلك لتأسيس شبكة عربية للمتاحف. وفى السنوات الأخيرة تزايد الوجود العربى فى المجلس الدولى للمتاحف، لكن خسارة العرب كانت كبيرة فى دمار متاحف العراق أثناء الغزو الأمريكى عام 2003م، وهى خسارة لن تعوض بسهولة. نأمل أن يكون هناك علم عربى للمتاحف، وفلسفة عربية خالصة وراء هذا العلم.