أخذ بعض المستشرقين علي المثقفين العرب الذين هاجروا إلي أوروبا أو اختاروا منافيهم فيها منذ أواخر القرن التاسع عشر والذين كان لهم الإسهام الأكبر فيما سمي بالنهضة العربية، أنهم لم يقدموا من المعرفة بالغرب ما يذكر إذ أن ما قاموا به لا يعدو كونه وصفا إنشائيا وبرائيا يصعب اعتماده للفهم والتأويل، وبالتالي لم يعلم العرب المسار الممتد علي مدي قرن ونصف القرن عن السياسة وكيفياتها في مجتمع حديث ولا عن أحوال المرأة والدين وغير ذلك، ولم يبق من معني الغرب سوي أنه سياسة استعمارية وقوة تعادينا.. أجل هناك قصور ومحدودية مريبان في انفتاح العرب علي الحداثة وتفاعلهم مع قيمها وأفكارها ومبادئها بما ينتشل المجتمعات العربية من الانغلاق علي ثقافتها الفائتة ويدفعها في إتجاه الإبداع والمشاركة الفاعلة في حركة العصر الفكرية، وثورته المعرفية، ومن الواقعي أيضا الاعتراف بفشل النخب الثقافية المهاجرة في إحداث صدمة تغييرية فى النسيج الاجتماعي العربي، كتلك التي عرفتها اليابان وأمريكا إثر انفتاحهما علي أوروبا، فقد ظل الحراك العربي تجاه الغرب بالإجمال حراكا نخبويا نهضت به نخبة خارجة علي مجتمعها وغير ذات جذور عميقة في بنيته، ولكن من الإجحاف القول إن فكر النهضة العربية لا يعدو كونه وصفا خارجيا لحضارة الغرب، أو أنه لم يقدم ما يستحق الذكر عن السياسة وأحوال المرأة والدين أو أننا اختزلناه في صورة الضد لحقوقنا ومطامحنا ففي هذا القول كثير من الظلم حتي لرواد النهضة العربية الأوائل من رفاعة الطهطاوي إلي الماروني الأصل فارس الشدياق والطبيب الحلبي فرانسيس المراش وأيضا أمين الريحاني أحد أبرز أدباء المهجر وغيرهم كثر، فلقد خبر هؤلاء بدرجات متفاوتة روح الحضارة الغربية وأفكارها وقيمها السياسية والاجتماعية والإنسانية فأدركوا الفعل الليبرالي الكامن وراء إنجازاتها العمرانية، ولم تكن المساواة فقط هي ما ألحوا عليه بل ألحوا أيضا على النظام السياسي وحرية الاعتقاد وحقوق المرأة والثورة علي التقاليد وتأكيد دور العقل ومركزيته في المجتمع والدين والسياسة، وهذه كلها من أساسيات الحداثة التي قد ميزت في جانب كبير منها فكرة روادنا النهضويين علي رغم إدانتهم استعمار الغرب وعدوانيته وتعاسة فقرائه، وشدد الطهطاوي علي احترام الاختلافات في الدين وحرية التعبد بسائر الأديان في الغرب ونبه إلي تميز الغربيين بإعلاء العقل ومكانة النساء المرموقة عندهم، ونظامهم السياسي القائم علي العدل ومساواتهم أمام القانون، ولاحظ الشدياق تقدير الإنجليز للعلم والعلماء وحق النقد عندهم حتي في الدين ومساواة الناس في الحقوق البشرية فضلا عن وضع المرأة المميز، أما فرانسيس المراش فقد أوغل في كتابه «رحلة باريس» في خلفيات حضارة الغرب التي تقوم علي احترام العقل الذى تميزت به من اختراع وإبداع واستحداث نظم سياسية واجتماعية وثورة معرفية وتفان في العمل، ولم يحل ذلك دون إدانة الطهطاوي والشدياق والمراش عيوب الحضارة الغربية وبعض مساوئها، إلا أن الجيل الراهن، من الأصوليين الرافض كل قيم الغرب العقلانية والسياسية والاجتماعية فلا يريد أن يري في الغرب سوي الاستعمار والصهيونية وانحلال الأخلاق!. لقد استوعب المفكرون الحدثيون منذ القرن التاسع عشر استيعابا نقديا أكثر قيم الحداثة فنادوا بالاحتكام إلي العقل وفصل الدين عن السياسة والانظمة السياسية الديمقراطية والعدل الطبقي لكنهم باءوا بالفشل في إيصال هذه القيم إلي الجماهير وغرسها في وعيهم وسلوكهم، بينما تقدم الأصوليون الظلاميون ليختزلوا الغرب في صورة الضد لحقوقنا ومطامحنا عابثين بكل تلك القيم التي لا خلاص لمجتمعاتنا بدونها. وقد آزرتهم في ذلك أنظمة ما بعد الاستقلال التي أمعنت في الظلم والفساد والاستبداد حتي عاد كثيرون يحنون إلي زمن الاستعمار الذي قدموا التضحيات وبذلوا دماءهم للخلاص منه. د. عماد إسماعيل