بعيدا عن حقيقة أن كلا المرشحين للرئاسة الأمريكية عام 2017 يعانيان قصورا حادا في الأهلية لقيادة أكبر دول العالم, فى لحظة فارقة وشديدة الحساسية فى التاريخ المعاصر,إلا أن هذا لم يمنع كلا المتنافسين من خوض حرب شرسة حول شرعية وقدرة الآخر على تولي المنصب, والأهم أن كليهما يخوضان حروبا إعلامية ضد بعضهما لوضعه فى بقعة حرجة أمام الرأى العام الأمريكى, الذى يجد نفسه أمام خيارين كلاهما مر. كانت أخر تلك الحروب الشرسة, استغلال ترامب للازمة الصحية الطارئة التى أصيبت بها المرشحة, هيلارى كلينتون والتي أدت لتعرضها للإغماء أثناء فاعليات الذكري الخامسة عشرة لأحداث 11سبتمبر, حيث سرعان ما استغلت حملة ترامب الحدث لتشكك فى مدى لياقة سيدة الدولة المخضرمة فى دخول البيت الأبيض مرة أخرى كرئيسة هذه المرة, ولم يجد ترامب 70 عاما أى قدر من الخجل وهو «يتهكم» علي السيدة كلينتون التى تبلغ من العمر 68 عاما!. كانت الكثير من التكهنات قد طرحت بالفعل حول مدى قدرة هيلاري الصحية على متابعة انتخابات رئاسية مضنية أمام خصم شديد الشراسة والعدوانية والحماقة أيضا, فى الوقت الذي خرج فيها مساعدوها يؤكدون كالعادة إن ما حدث لها منذ أيام لم يكن سوى حالة عابرة وبسيطة. بعض الملاحظين حاولوا إبداء قدر من الموضوعية، لكنهم لم يوافقوا بالتأكيد على أن ما تعرضت له السيدة كلينتون كان مجرد وعكة صحية طارئة خاصة وأن لها تاريخا كبيرا فى تضليل الصحافة والرأى العام، وذلك فى عدة قضايا سياسية بارزة, كان بعضها قد خضع لتحقيق لجان خاصة فى الكونجرس الأمريكى. وعلى أية حال فليس هذا هو مجال مناقشة هذا الملف الشائك, لكن فيما يخص تحديدا تضليلها للرأى العام حول حالتها الصحية, ربما نتذكر قصة إغمائها عام 2012 عندما كانت وزيرة للخارجية الأمريكية, والتى أدت فيما بعد لإصابتها لفترة طويلة بمشاكل فى الرؤية, وقبلها سقوطها أثناء محاولتها صعود الطائرة عام 2011, وقبلها أيضا تعثرها وهى فى طريقها إلى البيت الأبيض عام 2009. في جميع الأحوال فان كلا المرشحين الهرمين , رفضا الإفصاح عن الكثير من سجلاتهما الطبية خلال الفترة الماضية بشكل رأى فيه بعض الملاحظين تضليلا واضحا للرأى العام الأمريكى. كان ترامب قد صرح فى ديسمبر الماضي بعدد من البيانات المقتضبة عن معدلات ضربات القلب ومستوي الكوليسترول فى الدم الخاصة به، خاصة وهو متهم بأنه لا يتبع أى نمط صحى لحياته, وقد علق وقتها أنه سيكون أصح فرد ترشح للرئاسة الأمريكية فى التاريخ. في جميع الأحوال وبالرغم من الكثير من اللغط الذى أثارته إغماءة كلينتون أو تهكمات ترامب, فان تاريخ الرئاسة الأمريكية ملىء بالعديد من السوابق التى تؤكد أن صحة الرئيس أو المرشح للرئاسة ليست بالضرورة عنصرا حاسما فى الوصول إلى المنصب, الواقع إن التدقيق في الحالة الصحية للمرشحين كان إحدى السمات المميزة للسياسة الأمريكية , ولكن مع هذا فقد تمكن عدد من الرؤساء الأمريكيين من إخفاء المعلومات الدقيقة حول حالتهم الصحية ومارسوا أقصي درجات التكتم للإبقاء على هذه المعلومات سرية قدر الإمكان. وإذا أرادنا الدقة فان الإعلان عن إصابة هيلاري بالتهاب رئوي قد يبدو فألا سيئا, فقد كان هذا تحديدا هو نفس ما أصاب الرئيس الأمريكي التاسع وليام هنري هاريسون الذى كانت فترة رئاسته هى الأقصر فى التاريخ الأمريكي, حيث توفى بسب الالتهاب الرئوي عام 1841بعد شهر واحد فقط من إلقاءه خطاب التنصيب، في يوم عاصف شديد البرودة، وقد فشل الأطباء وقتها في احتواء الحالة وقدموا له العديد من الأفيون فقط ليتمكن من الظهور ولو لمرة أخرى علي مواطنيه ولكن بلا طائل. ولكن حتى يومنا هذا ما زال المؤرخيون الأمريكيون يبحثون عن السبب الحقيقي وراء وفاة رئيسهم وما إذا كان قد تعرض لمؤامرة وتم إعطاؤه عقاقير خاطئة أم أنه قد تعرض للتسمم بسبب تلوث فى إمدادات المياه؟. الرئيس الأمريكي التالي الذى تعرض لمحاولة اغتيال كان ثيودور روزفلت، الرئيس السادس والعشرون للولايات المتحدة1901 -1909, الذى أطلق عليه النار عام 1912 قبل إلقائه لكلمة أمام الحزب التقدمى الذى كان قد قام بإنشائه, وقتها كان ثيودور روزفلت رئيسا سابقا يستعد لخوض الانتخابات الرئاسية مرة أخرى, وقبل أن يلقي كلمته تعرض لإطلاق نار خفف من إصابته يومها انه كان يحمل أوراق خطابه في جيبه وقد حمي هذا جزئيا صدره, وبالرغم من إصابته أصر روزفلت على مواصلة إلقاء كلمته باختصار شديد قبل أن ينقل إلى المستشفى، وقد تسببت هذه الإصابة فى عجز كبير له، إلا انه استمر فى مواصلة ترشحه للانتخابات عام 1912، وإن كان قد خسر فى النهاية أمام مرشح الحزب الديمقراطى وودرو ويلسون, بعدها سافر فى رحلة طويلة إلى غابات الأمازون أدت لإصابته مرة أخري بالعديد من الأمراض المعدية, إلا إن هذا لم يمنعه من إعلان نيته الترشح للانتخابات فى عام 1920 ولم يمنعه هذه المرة سوى وفاته عام 1919. الرئيس التالي كان وودرو ويلسون الذى كان قد أصيب بجلطة فى المخ وشلل عام 1919 وقد أدت الإصابة إلى عجزه عن تولي أى سلطة تنفيذية. على أى حال لم تكن وقتها الشفافية عنصرا ذا قيمة فى الحياة السياسية الأمريكية, إلا أن الدراسات النفسية التالية على قدرات ويلسون على الحكم أكدت أنه كان بالفعل يعانى من مشاكل صحية ذهنية بصفة خاصة تعود إلى عام 1898, ويرجح اليوم المؤرخون أن طبيبه الخاص وزوجته اديث تمكنا دوما من القيام بعملية تستر هائلة على حالة ويلسون المتأخرة. الحالة التالية الأبرز لتولي رئيس أمريكى لمنصبه الرسمى وهو يعاني بالفعل من إعاقة بدنية كانت بالطبع من نصيب فرانكلين روزفلت, الذى كان يعاني من شلل جزئي وقد تمكن دوما من إخفاء كرسيه المتحرك بعيدا عن أعين الرأى العام الأمريكى، وكان قد أصيب بفيروس شلل الأطفال وهو فى الثلاثينيات من عمره, لكنه عندما سعي للحصول على فترة رئاسة رابعة عام 1944, وتمكن خصومه من استغلال تلك النقطة لمحاولة إلحاق الهزيمة به بعد إن فشلوا فى انتقاد سياساته الداخلية والخارجية. وتوضح وثائق سرية فى مكتبة الرئاسة الأمريكية كيف تمت إدارة حملة باسم «حملة الهمس» من منافسه توماس ديوى، قدمت روزفلت بصورة الرجل العجوز المتعب، فى المقابل كانت حملة الرجل العجوز أكثر نجاحا فى إثبات أنه مازال قويا وقادرا على إدارة شؤون أكبر دولة فى العالم, وكان أطباؤه قد حذروه من ارتفاع ضغط الدم وتصلب الشرايين وأنه عرضة لمخاطر كبيرة على القلب, وأخيرا فى أبريل 1945 انهار الرجل ومات بنزيف فى المخ. ولكن على أية حال لا يعنى كبر السن ضرورة أن يكون المرشح عرضة للأمراض أو يعاني من مخاطر صحية, ففى عام 1960 أعلن جون كنيدي السياسي الشاب أنه «أصح مرشح للرئاسة الأمريكية»، ولكن المؤرخين فيما بعد أكدوا أن المرشح الوسيم جدا والشاب جدا كان يعاني من مجموعة من الأمراض, أكثرها خطورة مرض أديسون وهو مرض هرموني نادر يصيب هرمونات الغدة الكظرية, بالإضافة إلى اضطراب فى المناعة العامة. وعلي الرغم من الجهود الهائلة التى قامت بها عائلته الثرية لإخفاء هذه الحقائق. اكتشفها مؤخرا مجموعة من الأطباء كانوا قد اجروا تشريحا جديدا لجثته عام 1992 وكشفوا أن كنيدي الذي اغتيل فى سن السادسة والأربعين, كان يتناول مكملات غذائية هرمونية بكميات كبيرة للسيطرة على إصابته بمرض اديسون, بل أن بعض المؤرخين اعتقدوا أنه كان سيخسر الانتخابات عام 1960 أمام ريتشارد نيكسون لو كان قد تم وقتها الكشف عن مشاكله الصحية. وفى عام 2002 أظهرت مجموعة جديدة من الوثائق السرية الطبية أن كنيدي أيضا كان يعيش على المسكنات ومضادات الاكتئاب والقلق والمنشطات والحبوب المنومة, كما أظهرت تقارير لأحد المستشفيات التى كان يعالج بها أثناء حملته الانتخابية بأنه كان يعاني من مشاكل في الأمعاء وهشاشة فى العظام. مما يجعل الرئيس الأمريكى الشاب الذى اعتبر لعدة عقود إيقونة التاريخ السياسى الأمريكى, كان تقريبا مجموعة متحركة من الأمراض الرابضة داخل الجسد الشاب. من النماذج العليلة أيضا التى سكنت البيت الأبيض, الرئيس الأمريكى رونالد ريجان، الرئيس الأربعين, الذى نجا من محالة اغتيال لم تترك جسده معافى تماما, ثم من إزالة ورم سرطانى فى القولون عام 1985, مما دفع بعض الباحثين والمؤرخين يعزون القرارات السياسية الفاشلة التي اتخذها ريجان وأدت في النهاية إلي فضيحة إيران كونترا إلى هذا المرض المؤلم, ويذكر أنه خلال فترة تعافيه كان قد نقل لفترة وجيزة بعضا من سلطاته إلى نائبه وقتها جورج بوش الأب, وتعجل فى عودته إلي العمل, وقد ذكر المؤرخ روبرت جيلبرت أستاذ العلوم السياسية, أن ريجان قد قام بخطأ فادح عندما تعجل بعودته للممارسة سلطاته, وقتها كما يروي جيلبرت, منع مساعدي ريجان الشعب الأمريكي من رؤيته لأنه كان متأثرا جدا من فترة العلاج, بالإضافة إلى انه لم يتذكر فعليا القرارات التى اتخذها حين كان فى المستشفي, وبعد وفاته أعلن أنه كان مصابا بالزهايمر. في النهاية يبدو أن الوضع الفعلى المثير للتساؤل والقلق هنا, ما إذا كان كلا المرشحين بغض النظر عن حالتهما الصحية وخاصة حالة ترامب الصحية النفسية, لديهما بالفعل من مؤهلات القيادة الاستثنائية ما يجعل أيا منهما مستعد لقيادة أكبر دولة فى العالم, فى وقت يتجه فيه العالم بجنون نحو تدمير ذاته.