منذ الانقلاب التركى الفاشل فى شهر يوليو الماضى بدأت مواقع التواصل الاجتماعى إلى جانب وسائل الإعلام والمتابعين فى البحث عن أصول الصراع بين التيارات السياسية فى تركيا. كما استعادت الأذهان أهم الكتب التى سجلت جذور ذلك الصراع. ومنها كتاب «ظهور تركيا الحديثة» تأليف برنارد لويس الذى أصدره مؤخراً المركز القومى للترجمة، من ترجمة قاسم عبده قاسم وسامية محمد. ويستهل المؤلف الكتاب بتعريف الأتراك, بأنهم «هم الشعب الذى يعيش فى تركيا ويتحدث اللغة التركية» ويستطرد: «من الوهلة الأولي، لا يبدو أن هذا تعريف يحمل أى قدر من الأصالة المذهلة، بل إنه لا ينطوى على محتوى ثورى كبير، بيد أن تقديم هذه الفكرة ونشرها فى تركيا وقبولها فى نهاية الأمر من جانب الشعب باعتبارها تعبيرا عن طبيعة هويتهم المشتركة وحالتهم الجماعية، مَثّل إحدى الثورات الكبرى فى العصور الحديثة التى انطوت على انفصال جذرى عنيف من الموروث الاجتماعى والثقافى والسياسي». ثم ينتقل إلى السرد التاريخي, موضحا كيف كان الأتراك حتى القرن التاسع عشر يرون أنفسهم مسلمين أولا، بحيث كان ولاؤهم على مستويات مختلفة إلى الإسلام والبيت العثمانى والدولة العثمانية، إذ أن اللغة التى يتحدث بها إنسان ما، والأرض التى يسكنها والعرق الذى يزعم أنه ينحدر منه، قد يكون له أهمية شخصية أو اجتماعية أو عاطفية وهذه ليست لها علاقة بالسياسة. لقد ربط الأتراك أنفسهم بالإسلام لدرجة أن مفهوم القومية التركية نفسه اختفي, على الرغم من بقاء اللغة التركية، ووجود ما كان فى الحقيقة الدولة التركية, وان لم يحدث هذا على المستوى النظري، بل أنهم حتى لم يحتفظوا مثل العرب والفرس بهويتهم باعتبارهم جماعة عرقية لها هويتها الثقافية المستقلة داخل نطاق العالم الإسلامي. ويركز مضمون الكتاب على ظهور تركيا الحديثة على أنقاض تركيا القديمة، وذلك بعد فحص تمهيدى لمصادر الحياة التركية وطبيعتها، فى تسلسل زمنى لا يعد تاريخًا سرديًا بسيطًا عن تركيا، وإنما بالأحرى محاولة لتتبع مراحل التغير الرئيسية وتحديدها، وقد تم تحديد مدى الدراسة بداية من عام 1950عندما أُقصى حزب أتاتورك عن السلطة فى انتخابات حرة كان الحزب نفسه قد نظمها ودخلت البلاد مرحلة جديدة من تاريخها. وفى الجزء الثانى من الكتاب يتابع المؤلف أربعة جوانب من التغيير: تحول الإحساس الجماعى بالهوية والولاء فيما بين الأتراك،وتحول نظرية الحكم وممارستها، وتحول الدين والحياة الثقافية التى كان يحكمها، وتحول النظام الاقتصادى والسياسي. وفى الفصل الأخير محاولة لوضع بعض الاستنتاجات العامة عن طبيعة الثورة التركية وتقدير انجازاتها. وبحسب المؤلف, بدأت الثورة التركية بالإطاحة بالنظام السياسى القديم وإنشاء نظام سياسى جديد فى عام 1908. غير أنها بمعنى آخر كانت موجودة قبل ذلك, وظلت مستمرة على مدى ما يقرب من قرنين من الزمان، فقد بدأت عندما تعرض الأتراك لسلسلة من الهزائم فاضطروا إلى الاعتماد على الأسلحة الأوروبية ودعوة المستشارين الأوروبيين, ومن ثم القبول بكل الأفكار الجديدة والمؤسسات التى تشكل أساس الدولة الحديثة والجيش الحديث. والإصلاحات الأولى قام بها الحكام المستبدون الذين أرادوا فقط تدريب وتجهيز أفضل الجيوش. وأدى ارتفاع تكلفة التحديث العسكري، إلى فرض الضرائب الباهظة وبروز أقسى الحكومات. ولكن هذه التغييرات وما أثمرته من استبداد لم يكن من الممكن أن يمر بدون منازع, فى عصر كانت فيه أوروبا هى النموذج والمحتذى للتنوير, و قدمت مجموعة كبيرة من الأيدلوجيات العلمانية للثورة، حيث أثرت الليبرالية والوطنية والأفكار الثورية على الطلاب الأتراك والطلاب العسكريين والدبلوماسيين والملحقين العسكريين. وحينما وجدت هذه الأفكار طريقها إلى تركيا كانت قد منحت زخما جديدًا واتجاهات جديدة للضباط والمسئولين الشباب وأدت إلى حركات دستورية وشعبية متتالية. والحقيقة أن التغير الأساسى فى تركيا, وانتقالها من إمبراطورية إسلامية إلى دولة تركية, ومن البيروقراطية الإقطاعية إلى الاقتصاد الرأسمالى الحديث, كان قد تم انجازه على مدى فترة طويلة وبفضل موجات متعاقبة من المصلحين والمتشددين. ويعد المؤلف برنارد لويس هو أحد أهم الباحثين الأكاديميين فى التاريخ الاجتماعى والاقتصادى للشرق الأوسط, وله العديد من المؤلفات منها :«العرب فى التاريخ» و«الإسلام فى التاريخ» و«تركيا اليوم»، و«اليهود والقضية الفلسطينية» و«الساميون والمعاداة للسامية» والمترجم قاسم عبده قاسم أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة الزقازيق، حاصل على جائزة الدولة التقديرية عام 2008 وله عدد كبير من المؤلفات والترجمات, والمترجمة سامية محمد جلال مدرس اللغة التركية بكلية الآداب بجامعة القاهرة. الكتاب: ظهور تركيا الحديثة المؤلف: برنارد لويس ترجمة: قاسم عبده وسامية محمد الناشر: المركز القومى للترجمة