من جديد، بدأت عملية إعادة ترتيب موازين القوى الإقليمية والدولية وأطرافها المحليين الفاعلين فى الأزمة السورية على الأرض، خاصة مع قرار دخول اللاعب التركى إلى ميدان المعركة علنا، كأولى دلالات التحول فى مواقفه السياسية تجاه الأزمة، الأمر الذى من المنتظر أن يفرض سلسلة جديدة من المتغيرات الميدانية ما قبل استئناف عملية المفاوضات السياسية لحل الأزمة فى جنيف. تحت ذات العنوان العريض «الحرب على داعش»، اقتحمت القوات التركية الحدود السورية «غازية»، على الرغم من أن الهدف معلن ومعروف لدى الجميع، وهو القضاء على حلم أكراد سوريا فى الاستقلال، من ثم تشكيل منطقة آمنة أو عازلة تحت حماية حدودية من تركيا، وقوات المعارضة السورية فى الداخل، مما يضمن تحقيق الحلم الذى طالما تمناه الرئيس التركى رجب طيب أردوغان منذ اندلاع الأزمة فى سوريا. إلا أن الملاحظ الآن هو : أولا : اختيار تركيا توقيت تدخلها العسكرى مع بدء المعارك ما بين الجيش السورى والميليشيات الكردية فى الحسكة، وهى المعارك التى نالت وللمرة الأولى التأييد من الجانب التركى للحكومة السورية، حيث الإشارة إلى بدء التفاتها لخطر الأكراد، من ثم إيجاد أرضية مشتركة ممهدة للهجوم، تحت عنوان أعرض هو «الحفاظ على وحدة الأراضى السورية». أضف إلى ذلك، وفى سياق التوقيت أيضا، اختيار بدء العملية العسكرية وقت زيارة جوزيف بايدن نائب الرئيس الأمريكى لأنقرة، وسط خلافات «تركية - أمريكية» ما قبل وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة فى تركيا حول المسألة الكردية، حيث تهديد أردوغان لواشنطن أكثر من مرة بضرورة الاختيار ما بين تركيا أو الأكراد، الأمر الذى لم يكن يشغل بال واشنطن قبل الانقلاب الفاشل، إلا أنه وضعها الآن أمام مأزق ضرورة الاختيار. ثانيا : وفى المقابل، إعلان تركيا التنسيق مع روسياوإيران نحو ما سمته بعملية «درع الفرات»، وسط أنباء - غير مؤكدة - حول زيارة رئيس جهاز المخابرات التركية إلى دمشق، كذلك لقاءات ما بين مسئولين أتراك وممثلى ميليشيا «حزب الله» فى لبنان، وهو ما يأتى توافقا مع ما سبق وأعلنته تركيا من مراجعة لسياستها تجاه الأزمة فى سوريا، من ثم القبول بدور للرئيس السورى بشار الأسد فى المرحلة الانتقالية، إلى جانب المصالحة مع روسيا، والتقارب مع إيران. ثالثا : اعتماد تركيا فى هجومها على قوات دربتها على أراضيها قوامها 5 آلاف مقاتل تحت المسمى القديم لقوات المعارضة المسلحة السورية «الجيش الحر»، وليس عبر استدعاء قوات من المعارضة المحلية، التى تنضوى تحت لوائها العديد من التنظيمات التى توصف ب«الإرهابية»، مما يعكس حرص تركيا على كسب التأييد الإقليمى والدولى للغزو، حيث استمرار الخلافات ما بين أطراف الأزمة المختلفة حول تحديد ما سمى ب«المعارضة السورية المعتدلة» بوجهيها العسكرى والسياسي، مما يشير إلى جانب آخر من تفاهمات «روسية- تركية - إيرانية» حول الأزمة السورية. لكنه ورغم مجمل ما دللت عليه العملية من تحول فى الموقف السياسى التركى تجاه الأزمة السورية، فإن هذا لا يمنع من ضرورة التأكيد على أن مخاطر الغزو التركى أكثر من فوائده، حيث زعم البعض أنه وضع الأزمة على طريق الحل، خاصة مع النظر إلى ما كشف عنه، ويمكن إجماله فى التالى : أولا : استمرار تمسك أردوغان بحلمه فى سوريا وأنه ما زال لاعبا رئيسيا فى الأزمة، حتى ولو عبر المبدأ الشهير«الغاية تبرر الوسيلة»، فمن رفض الأسد إلى القبول به، ومن دعم داعش إلى الحرب ضده، مما يفضح زيف المصداقية التركية تجاه الأزمة، من ثم عدم التعويل على أى من المواقف التى قد تتخذها تجاهها، حيث إنه من الممكن وأن تتراجع عنها فجأة، مما يعيد قلب الأوضاع فى أى لحظة. ثانيا : الدلالة الرمزية الواضحة لاختيار توقيت العملية العسكرية فى 24 أغسطس، حيث إنه ليس من سبيل المصادفة توافقه مع الذكرى السنوية الخمسمائة لمعركة «مرج دابق»، القريبة من جرابلس، والتى انتصر فيها العثمانيون على المماليك شمال حلب ومهدوا من خلالها لحكم المنطقة. ثالثا : فتحت العملية جبهة حرب جديدة ما بين تركيا والأكراد، تلك التى يمتد أجلها إلى أطول من عمر الأزمة نفسها، وهو ما يصنع أزمة لسوريا المستقبل، ذلك عبر إيجاد حرب قومية مستمرة ومفتوحة ما بين الأكراد والعرب، كما هو الحال الآن فى تركيا، وقد دلل على ذلك ما كتبه صالح مسلم زعيم حزب الاتحاد الديمقراطى الكردى السوري، فى تغريدة على موقع «تويتر» بعد بدء العدوان التركي، إن أنقرة ستخسر فى«مستنقع» سوريا كتنظيم داعش. رابعا : فشل أردوغان بعملية «درع الفرات» فى محو علاقة حكومته بتنظيم داعش، بل إنها ربما أكدت عليها أكثر، حيث السرعة القياسية لسقوط«جرابلس» - نحو 10ساعات فقط - بعد تخلى دايش عن المدينة، والتى تعد «بوابته الأخيرة للعالم الخارجي» دون قتال! خامسا : إحداث العملية لشق جديد فى صفوف المعارضة بوجهيها السياسى والعسكري، تلك المنشقة على نفسها فى الأساس، وبالأخص مع اختلاف الهدف من إسقاط الأسد إلى إسقاط الأكراد، من ثم تصريحات رامى عبد الرحمن مدير ما يسمى ب «المرصد السورى لحقوق الإنسان» أحد أبرز أبواق المعارضة فى الخارج للتنديد بما يزعم أنها «مجازر» يرتكبها الجيش السورى ضد شعبه، والتى وصف فيها أيضا العملية العسكرية فى سوريا ب«المسرحية» لتبرير التدخل التركى الرامى للتصدى للحلم الكردى على حدوده الجنوبية. إن المشهد الحالي، والذى يبدو وكأنه بمثابة عملية جمع للغنائم قبل انتهاء المعركة، هو ما يشير إلى أن الهدف الحقيقى للتدخل كان وما زال ضمان النصيب فى الكعكة، بعيدا عن أى مسميات أو عناوين أخرى، مما يعنى أن ما وصف على كونه بمثابة التحول فى الموقف التركى تجاه الأزمة ما هو إلا مناورة لتحقيق الأهداف، تلك التى قد تنقلب إلى«مقامرة» يخسر فيها«السلطان» كل ما أراد.