لا أدري متي سمعت عن السويد لأول مرة, ولكن المؤكد أن رواية الكاتب والأديب فتحي غانم الساخن والبارد عن مصري ذهب إلي استوكهلم لسبب ما كانت بداية للتعرف علي دنيا أخري غير تلك التي تعودنا عليها والتي كانت تخص إلي حد كبير بريطانيا وفرنسا وألمانيا والقارة الأوروبية بشكل عام ومعها بالطبع الولاياتالمتحدةالأمريكية. وفي الرواية كان المصري هو الساخن بينما كان الآخر السويدي هو البارد حتي اختلط الاثنان مع أحداث القصة التي ذبلت ملامحها في الذاكرة. ومن بين الكتب التي لفتت نظري منذ أعوام كان كتاب جوهان نوربيرج السويدي في الدفاع عن الرأسمالية العالمية والذي فضلا عن الرد عن ناقدي الرأسمالية فإنه طرح التجربة السويدية التي وصفت السويد بأنها لم تكن تختلف عن موزمبيق من حيث المؤشرات الأساسية للاقتصاد( متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي, والعمر المتوقع عند الميلاد, ونسبة المتعلمين في سن التعليم, وغيرها) في منتصف القرن التاسع عشر, بل كانت أكثر سوءا, حتي جاءت اللمسة الرأسمالية وحولتها من بلد متخلف تماما إلي واحدة من أكثر البلاد تقدما في العالم. ولفت نظري أن خالد الخميسي وضع في روايته سفينة نوح حلما لبطلته أن تهاجر مع حبيبها إلي السويد, وهي لا تعرف لماذا اختارت السويد لكي تكون موطنها المستقبلي. من المحتمل أنها سمعت أنهم هناك ينتحرون من ملل الرخاء بعد أن ملت هي من الحياة علي حد السكين!. وبالطبع كانت لي تجربتي الشخصية مع السويد عندما شاركت في عدد من المؤتمرات التي عقدت في استوكهلم, وللحق لم يبق منها الكثير في الذاكرة, ومن ظهرن من السويديات في السينما العالمية إما أنهن كن استثناء كبيرا من القاعدة, أو أنهن أتين للسينما من كوكب آخر. ولكن لحظة شاهقة بالجمال جاءت عندما كنا علي قمة واحد من الجبال في أقصي شمال الأرض فبدت السماء أقرب مما نعرفها نحن الذين نعيش في منتصف الأرض. كما كانت هناك لحظة سعيدة, فبعد عشاء عمل رفض السفير العظيم المرحوم تحسين بشير المشاركة فيه عدنا إلي الفندق في منتصف الليل الذي كان لا يزال فيه النهار قائما, وإذا به ينضح بالسعادة لأنه وجد محل فلافل لا يظن أن له مثيلا في الكون. ولم يكن السفير ممن يرد له طلب حتي ولو كنا قد انتهينا من العشاء السويدي توا, ولكن نظريته كانت صحيحة تماما حتي أن طعم فلافل السويد ما زال باقيا في الفم, وأظن الرائحة في الأنف أيضا, حتي اليوم. الدكتور محمد البرادعي أعاد السويد إلي الذاكرة في إطار مختلف تماما, ففي حوار له علي محطة دريم الفضائية قال: أؤمن باشتراكية ديمقراطية كما في النمسا والسويد وهو بالنسبة لي شعب نموذجي أفضله عن النموذج الأمريكي أو السوفيتي لأن النمسا والسويد تمزجان ما بين الديمقراطية والاشتراكية. وقد وجد الخبثاء في هذا القول ذكاء حيث جاء حديثه عن الاشتراكية حتي ولو كانت سويدية نوعا من الجسر مع جماعة الاشتراكيين والناصريين واليسار عامة في الصحبة السياسية. أما الذين يأخذون الدكتور البرادعي بالجدية التي تليق به فإن الضرورة تقتضي دراسة هذا النموذج الذي يفضله واحد من السياسيين المصريين الذين لا ينبغي غض النظر عن أطروحاتهم السياسية. والحقيقة فيما يخص السويد أنه لا يوجد نموذج سويدي وإنما توجد ثلاثة نماذج سويدية ليس معلوما أيها يفضل الدكتور البرادعي أو غيره من المصريين الباحثين عن نماذج متقدمة لتنمية البلاد, حيث يشير بعضنا إلي النموذج التركي والبعض الآخر إلي النموذج الماليزي, وهكذا نماذج وتجارب. والنموذج السويدي الأول طبق منذ عام1870 حتي عام1960 فقد كان هناك حرص من جانب الحكومات السويدية المتعاقبة علي استقرار التشريعات الداخلية الداعمة للسوق والتعليم والرعاية الصحية سواء للأطفال أو المسنين وتشييد البنية الأساسية, وصار الوضع السائد في السويد يتطور عاما بعد آخر لدرجة أنه كان شبيها بنظيره القائم في الولاياتالمتحدة, بحيث تحولت السويد من واحدة من أفقر الدول الغربية إلي ثالث أغني دولة وفقا لمؤشر محدد وهو نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي علي مستوي دول العالم. والنموذج الثاني المطبق خلال الفترة الممتدة من عام1960 إلي عام1990, قد شهد إرساء دعائم دولة الرفاهية الاجتماعية, بحيث تراوح الإنفاق العام ما بين60 إلي65% من الناتج المحلي الإجمالي, وتضخمت أو بالأحري توحشت الضرائب لكي تصل إلي ما بين65% إلي75% بالنسبة للشريحة الغالبة من الموظفين. كما تدنت الحوافز الدافعة إلي العمل والادخار, وضعف الإقبال علي تأسيس الشركات التجارية وتكوين المشروعات الصغيرة نتيجة لاعتبارات تتعلق بمتغيرات ضغط الرواتب وتقليل أرباح الشركات. وخلال هذه الفترة, تراجع ترتيب نصيب الفرد السويدي في الناتج المحلي الإجمالي بما يقرب من18% عن المتوسط' من المركز الثالث إلي المركز السابع عشر' في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في أوروبا(OCED) أما النموذج السويدي الثالث فقد عرفته البلاد مع منتصف التسعينيات حتي الآن, حيث بدأت معدلات النمو في الارتفاع, وتم تخفيض الضرائب بما بين10 إلي20%. كما انضمت السويد إلي عضوية الاتحاد الأوروبي في1 يناير1995, وقد بدأ تطبيق هذه السياسات مع وجود حكومة الديمقراطيين الاجتماعيين في السلطة, حيث بدت الحكومة السويدية راغبة في السير في طريق التحرير الاقتصادي, وفي الوقت نفسه ما زالت تتسم بقدر كبير من الاعتماد علي الرفاهية الاجتماعية, حيث يعيش ما يقرب من23% من السكان, علي أنواع مختلفة من الإعانات الحكومية. ومن ثم, فإن أحد التحديات التي تواجهها السويد في اللحظة الراهنة يتمثل في تضخم أعداد الأشخاص القادرين علي العمل, حيث إن نظام تقديم الإعانات للعاطلين عن العمل دفع عددا كبيرا منهم إلي عدم التفكير والسعي للحصول علي وظيفة مما أدي في النهاية إلي حدوث تضخم في أعداد المواطنين القادرين علي العمل لكنهم يعطون الأولوية للحصول علي إعانات نظام الرفاه الاجتماعي. كما أن هذا النظام يدفع البعض إلي التفكير في التقاعد المبكر نتيجة اطمئنانه إلي الحصول علي نسبة كبيرة من راتبه الذي كان يتقاضاه في حالة إقدامه علي ذلك. ورغم كل الإصلاحات والسياسات التي تبنتها الدولة لزيادة معدلات التشغيل, إلا أن ذلك لم يحل دون وجود نسبة بطالة عالية, حيث وصلت إلي9.7% عام2009, والملاحظ أن هذا المعدل اتجه إلي الارتفاع, حيث كان قد بلغ في عام2007 حوالي6.1%, وبلغ في عام2008 نحو6.4%. وبرغم ذلك, فإن بعض التقديرات تقول إن ثمة صعوبة في الوصول إلي المعدل الحقيقي للبطالة, بسبب النتائج المترتبة علي نظام الرعاية الاجتماعية الذي تتبناه الدولة, والذي يطيل أمد الإجازات المرضية, لاسيما أن نظام التأمينات الاجتماعية المتبع يدفع80% من أجر العامل في حالة المرض. النموذج السويدي هكذا قام علي عدة أعمدة أولها حالة رأسمالية كاملة نتج عنها فائض اقتصادي أو تراكم رأسمالي هائل أعطي الفرصة لوضع دولة الرفاهة الاجتماعية موضع التطبيق بمساندة من معدلات عالية للضرائب. ولكن التكلفة العالية لدولة الرفاهة هذه, وما تسببه من خلل في القواعد الاقتصادية لم تؤد إلي تراجع السويد في الترتيب العالمي فقط, أو زيادة تكلفة الإنفاق الاجتماعي وحده, وإنما أدت في النهاية إلي هرب رأس المال السويدي الذي لم يستطع تحمل الضرائب العالية بينما الاستثمارات مفتوحة في بقية بلاد الأرض خاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية. وكانت النتيجة النهائية هي المراجعة للتجربة كلها سواء في أسسها الاجتماعية أو الضرائبية, وهي العملية الجارية الآن في السويد خاصة مع ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية. والسؤال الآن هو أي من النماذج السويدية نريد, أو أي من أجزاء هذه النماذج المختلفة, وما لا يقل أهمية عن ذلك هل نأخذ النموذج السويدي كله بما فيه الثقافي والسياسي أم بعضا منه فقط, وبعد ذلك وقبله كيف يمكن تكييف هذا النموذج مع الحالة المصرية وما فيها حيث المشكلة الكبري ليست الإنفاق الاجتماعي الذي يصل حاليا إلي166 مليار جنيه وإنما تحقيق التراكم الرأسمالي من خلال الاستثمارات العامة والخاصة وكل ذلك عند مستويات دنيا من الضرائب بالمقارنة مع السويد والغالبية من دول العالم مهما كانت الشكوي من ضرائب الدكتور يوسف بطرس غالي. والمسألة هكذا تحتاج إلي دراسات وتوضيح, ومن المدهش أن من قالوا بالنموذج سكتوا عنه بعد ذلك, ولا يبدو أن المسألة لا تزيد علي أفكار باهرة تقال في ساحات تليفزيونية دون فحص أو تمحيص. ولكن مثل ذلك لا يجوز لأن جوهر السياسة لا يزال هو التغيير, ولا يمكن حدوث هذا التغيير باعتباره ضغطا سياسيا, وإما هو مناهج وبرامج يمكن تطبيقها علي الأرض, والواقع وإلا ما كانت هناك فائدة من المنافسة السياسية. والمدهش في الموضوع كله أنه علي كثرة ما تم سؤال الدكتور البرادعي في ساحات مختلفة فضائية وافتراضية ومطبوعة فإن أحدا لم يستكشف منه حقيقة النموذج السويدي الذي يقصده, ولا الكيفية التي يريد بها تطبيقه في مصر, وبالطبع فإنه ما لم يطرح السؤال فإن الإجابة لم تعد مطلوبة, وعلي الأرجح أن الدكتور البرادعي قد نسي الموضوع كله!. [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد