الرواية بدأت مثيرة للغاية, ولكنها ما لبثت أن اختنقت في زوايا التفاصيل, وهي معضلة الكثير من نوعية أدبية جديدة ذات طبيعة مباشرة وحارة وسريعةوتكون تفاصيلها في حد ذاتها مبهرة لأن الحرفة تكون قد عبرت تلك اللحظة غير المرئية ما بين التسجيل والأدب. ولا أعتقد أنني أحتاج للتسجيل في كل مرة بأنني لست ناقدا أدبيا محترفا, ولا أقول ذلك علي سبيل الاعتراف, أو التقية وإنما لوضع الأمور في حجمها الصحيح, فلا شك أن لكل مهنة أهلها, ولكن التحليل السياسي والاجتماعي في العموم كثيرا ما يخترق حجبا كثيرة عندما يري في الآداب والفنون مرآة يظهر فيها ما هو خاف من تفاصيل المشاعر والأحاسيس التي لا تعكسها أرقام الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء, ولا استطلاعات مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء, ولا مسوح المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية, ولا تحليلات مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام. وفي ظني أن نجيب محفوظ ويحيي حقي ويوسف إدريس عكسوا عصورا مصرية أفضل كثيرا من حزم كاملة من المؤرخين والباحثين الاجتماعيين الذين أسرفوا في فهم أرقام صماء لم تكن باهرة أبدا في الإفصاح عن حالها أو البوح بما فيها من أسرار وعجائب. ما لدينا الآن بات حالات مختلفة, فما مضي من أدب روائي كان بمثابة كشافات كبيرة علي مناطق مظلمة, تتيح فهم ملاعب سياسية بأكملها كما تفعل الكشافات التي نراها في ملاعب كرة القدم. ولكن الجديد في الأمر هو أن أدباء ومؤلفين جعلوا من هذه التفاصيل ذاتها قصة ورواية ليس من خلال تسجيلها فتصير تقريرا إخباريا, وإنما اكتشاف ما فيها من دراما عنيفة أو مثيرة أيهما أقرب لنقل الموضوع كله من ساحة الواقع إلي حالة الأدب. ومنذ فترة اكتشفت ذلك, وسميتها في مكان آخر بأدب جيل علاء الأسواني الذي جعل من شخصيات نعرفها أبطالا في ساحة جديدة كانت مبهرة في الرواية الأولي عمارة يعقوبيان ثم صارت أقل إبهارا مع الرواية الثانية شيكاغو لأن التسجيل فيها طغي علي الدراما التي غابت كثيرا عن المواقف, ولكنها بقيت في اللغة علي أي حال. ولكن علاء الأسواني ترك ساحة الذين يتأملون, ودخل إلي الساحة التي يلعب فيها الناس بالسياسة, ولا أدري شخصيا كيف سوف تأتي روايته المقبلة وفيها شخصيات مثل الدكتور البرادعي, والدكتور حسن نافعة, والدكتور يحيي الجمل, والدكتور عبد الحليم قنديل, ومعه القنديل الآخر مقدم البرامج التليفزيونية الشهير حمدي قنديل. كل هؤلاء يصلحون لكي يكونوا أبطالا في رواية رائعة, ولا أدري شخصيا كيف يراهم علاء الأسواني ساعة اجتماعات جماعة التغيير, وهل يراهم باعتبارهم شخصيات في رواية كبيرة, أم أنه في النهاية يتعامل مع مواقفهم السياسية, أو باعتبارهم في النهاية رفاق طريق سياسي. لقد انجرف الحديث أو كاد نحو الأمور السياسية, ولكن المقال مخصص للرواية التي أهداني إياها الأستاذ خالد الخميسي سفينة نوح وهي عمله الثاني الذي قرأته بعد تاكسي. ومن باب التسجيل فقد قرأت تاكسي بناء علي نصيحة أصدقاء قرأوها مترجمة ووجدوا في شخصي نقيصة كبري لتأخري في قراءتها وهي الرواية المصرية التي تمت ترجمتها للغات عديدة يفهم أهلها أنهم لا يستطيعون فهم أنفسهم ما لم يتعلموا كثيرا عن الآخرين الذين هم في هذه الحال نحن, وكان خالد الخميسي معبرا عنا في قصصه. ولكن ما كان موضع اهتمامي في الموضوع كله فقد كان مرة أخري ذلك الأدب المباشر الذي بدأه علاء الأسواني وجاء فيه جماعة أو جيل, إذا شئت, كان منه حمدي عبد الرحيم وآخرون شدوني جميعا إلي إعادة قراءة أحداث ووقائع أعرفها لكنها في قالب آخر أدبي كما أعتقد تصير وقائع أخري بعد أن دخلتها لغة مختلفة ذات وقع ومرح أحيانا وكآبة في أحيان أخري. سفينة نوح هي في النهاية عن الهجرة إلي الشمال, وفي البداية ظننت أن السفينة هي الولاياتالمتحدة التي هي بالفعل أشبه بسفينة نوح ولكن ليس فيها من كل شيء في العالم زوجان اثنان, وإنما بضعة ملايين من كل لون ودين. ولكن ما اكتشفته بعد ذلك أن الموضوع ليس السفينة التي أصبحت هدفا ومستقرا, وإنما فعل الهجرة ذاته, أو عملية الذهاب إلي الجانب الآخر, أما الآخر, الذي ظهر قليلا في شيكاغو علاء الأسواني, فهو هامشي تماما لدي خالد الخميسي. هنا لا نجد باريس وقد جاءها عصفور من الشرق وسجلها توفيق الحكيم, أو ذلك الصدام بين الساخن والبارد في السويد الذي كتب عنه فتحي غانم, أو لندن وعالمها الإنجليزي الذي كتب عنه الطيب صالح في موسم الهجرة إلي الشمال أو أي من الكتب التي جسدت الصدام الحضاري في داخلنا بين عالم آخر وعالمنا. خالد الخميسي كان مهتما بالعملية ذاتها, أو تلك المجموعة من التفاعلات المنتجة لفعل الهجرة, والتي تبدأ من القنوط من إمكانية تحقيق المني لجماعات كلها تنتمي لشرائح مختلفة من الطبقة الوسطي والدنيا وهي تقوم بها ليس انبهارا بتقدم الناحية الأخري, وإنما يأسا من الواقع الذي فيه من الظلمة ما يكفي لكي يسير أفراد إلي بحر الظلمات بالمعني الحرفي للكلمة حينما تتقاذفهم أمواج البحر بعد أن ألقي بهم إلي اليم زورق مثقوب. القنوط هنا مجسد ومجسم وشائع بين من لا يجد بدا من الذهاب إلي البحر لكي يلقي به علي الشواطئ الأوروبية حتي تتلقفه جماعة الصليب الأحمر وهو بلا هوية ولا جواز سفر; أو يجد أنه علي استعداد لبيع كليته من أجل الذهاب إلي الموت. الفكرة واحدة والقنوط هو الجوهر حتي لو جاء له الناس من سبل متفرقة تكون فقرا أو انسدادا للسبل; وبالمعني الحرفي للمثل الشائع أن الناس قد يأتون في قوارب مختلفة ولكنهم في النهاية يصلون إلي ميناء واحد. ومن الجائز أن يذهب الإنسان إلي آخر الدنيا بسبب حب خائب, أو فقر لا نهاية له ولا أمل في الخلاص منه, أو نتيجة انفراط حال أسرة, أو بسبب تزمتها الشديد, أو حتي لأنه لم تعد هناك إمكانية لمواطنة حقيقية في بلد سيطر عليه الأصوليون. سفينة نوح مكتوبة بلغة جذابة حتي لو كانت كل صورها متوحشة, وهي مرحة للغاية تكتشف المفارقة في الموقف وتحتفي بها في جملة واحدة حتي لو كانت كلها في الحقيقة تبعث علي الانقباض. ولكن كما هو الحال في هذه النوعية المباشرة من الأدب لا مكان فيها لتلك الرحلة الشرعية لحوالي سبعة ملايين من المصريين الذين ذهبوا طلابا أو زائرين أو مهاجرين فعلا واكتشفوا عالما جديدا أخذوه وعادوا به إلي مصر أو بقوا مع ارتباط لا ينفصم بالمحروسة يجعلهم يحولون مليارات من الدولارات, أو يمتلكون بيوتا واستثمارات في مصر, أو يتنقلون بالثروة والعلم بين عالمين. فهذه الرحلة لابد وأنها أفرزت أفعالا درامية تكفي لتحريك الجبال. وبالطبع فإنه ليس من أصول الكتابة عن الروايات, أو أي أمر آخر, تسجيل ما كان واجبا علي الكاتب أو المؤلف اكتشافه أو الكتابة عنه, ولكن القضية هنا ليست النقد من الداخل أو الخارج, وإنما هي التسجيل لتيار أدبي بات عاكسا لتيار سياسي بالغ اليأس والبؤس معا حتي لو كان يمتلك القدرة الحرفية والموهبة في التصوير والكشف. المعضلة هنا أن مصر كلها تفتقد علي يد أبنائها نعمة اكتشاف التقدم وما يحدث فيه من فورة مثيرة تتحدي ليس فقط العالم الآخر بما فيه من تقدم بل وتتحدي كل العالم القديم, أي عالمنا, بشعوذته القومية والدينية واليسارية المفجعة والعشوائية. وليس معني ذلك أبدا أن المطلوب هو اللجوء إلي صور ملونة عن الآخر, أو الإنجاز في حاضر لا يتحرك كثيرا, وإنما اكتشاف دراما الصراع بين الجديد والقديم بدلا من العزف علي أنغام ندابات كوارث عظمي وأحزان عميقة. ومن الناحية الفنية البحتة, فإن القارئ لسفينة نوح يجد نفسه يفقد زخم وطزاجة وروعة الثلث الأول من الرواية بعد أن يبدو المؤلف كما لو أنه يبحث عن حالات مفجعة ومقززة بينما يواجه معضلة الانحراف نحو التسجيل المباشر وهو ما سعي خالد الخميسي لتجنبه بحرفية عالية; بقدر مواجهة معضلة الرغبة المستحيلة للعبور من القصة القصيرة إلي الرواية الحقة. والحقيقة هي أنني ربما عقدت الموضوع أكثر مما ينبغي, ولعل ذلك ما يفعله الأكاديميون في كل الأحوال, ولكن الرواية بحق ممتعة لمن يريد الاستمتاع بأدب جديد, ولا بأس أحيانا من النظر في المرآة ساعة قبح, ولكن المهم عدم إطالة النظر كثيرا لأنه ساعتها تقترب الرؤية من الجنون. وكما يقال فإنه ليس مهما أن تنفث دخان السجائر, ولكن المهم هو ألا تبتلعه؟!. سفينة نوح هي في النهاية عن الهجرة إلي الشمال, وفي البداية ظننت أن السفينة هي الولاياتالمتحدة التي هي بالفعل أشبه بسفينة نوح ولكن ليس فيها من كل شيء في العالم زوجان اثنانهنا أن مصر كلها تفتقد علي يد أبنائها نعمة اكتشاف التقدم وما يحدث فيه من فورة مثيرة تتحدي ليس فقط العالم الآخر بما فيه من تقدم بل وتتحدي كل العالم القديم. [email protected]