من بين العوامل التى أفضت إلى ثورة الثلاثين من يونيو عام 2013 ضد حكم الإخوان، وهى الموجة الثورية التى أيدتها القوات المسلحة وتوجت ببيان الثالث من يوليو عام 2013، وأدت إلى إسقاط حكم الإخوان، يبرز على نحو خاص خوف المصريين على هويتهم وخوفهم على هوية مصر، الممتدة فى التاريخ لآلاف السنين، والتى تشكلت من أطوار وطبقات مختلفة من التاريخ الفرعونى واليونانى والهيلينى والرومانى والقبطى والإسلامى والحديث والمعاصر، والتى انصهرت جميعها فى بوتقة الصهر المصرية التى جمعت بين الوحدة والتنوع والهوية الرئيسية والهويات الفرعية فى تناسق وتنوع وتماسك من طراز فريد، بحيث أصبح من الصعب الفصل بين هذه الطبقات من التاريخ فى تكوين وتشكيل هوية مصر، فجميعها بلا استثناء قائم فى صلب هذه الهوية حتى وإن غلب ظهور إحداها فإن ذلك الظهور لا يعنى موت وانتهاء تلك المكونات بل هى باقية فى الوعى والثقافة والتشكيلات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المختلفة. استنادا إلى هذه الخلفية فإن الدراسة الحالية تعنى بمفهوم الهوية المصرية فى منظور الأحزاب السياسية الإسلامية وتسوق الدراسة نقدا معمقا للرؤية الإسلامية لهوية مصر، والدراسة الحالية هى جزء من دراسة أكبر حول موضوع الهوية بشكل عام والهوية فى منظور الإسلام السياسى، كانت قد نشرت فى كتيب صغير عن المركز العربى للبحوث والدراسات الذى يديره أستاذنا الفاضل السيد يسين. فى هذه الدراسة نعالج رؤية الهوية وعناصرها ومكوناتها لدى الأحزاب التى تنتمى للإسلام السياسى، وتشخيص أزمة الهوية الثقافية المصرية وكيفية تجاوزها، وقد اخترنا فى هذا الجزء أربعة أحزاب من أحزاب الإسلام السياسى هى على التوالى؛ حزب الحرية والعدالة المنبثق عن جماعة «الإخوان المسلمين»، وحزب النور السلفى وحزب البناء والتنمية وهو بمثابة الذراع السياسية للجماعة الإسلامية ثم حزب الوسط. وسوف نحرص فى هذا الجزء على إبراز عناصر ومكونات الهوية فى نظر هذه الأحزاب وفق البرامج السياسية المعلنة لهذه الأحزاب، والتى خاضت على ضوئها الانتخابات وقدمتها كأوراق اعتماد لدى المواطنين والناخبين، أى أننا سنحاول أن ندع هذه الأحزاب تتحدث عن نفسها وباللغة التى اختارتها والمفردات والتراكيب التى صاغت بها مسألة الهوية والثقافة. حزب الحرية والعدالة تجنب إفراد بند خاص بالهوية علي خلاف الأحزاب الدينية الثلاثة الأخري وبادئ ذى بدء ووفق برنامج حزب الحرية والعدالة، فإن برنامج هذا الحزب لم يشتمل لا فى فهرس البرنامج ولا فى عناوينه الداخلية أو فصوله وأبوابه، أي بند يشير مباشرة إلى مسألة الهوية، وذلك لا يعنى بالضرورة غياب هذه المسألة، بل على العكس فإن حضورها غير المعلن عنه فى الفصول والعناوين والأبواب قد تعزز وتكرر تحت أكثر من عنوان، بل أقول إن مسألة الهوية تتغلغل فى غالبية الأبواب، ويبدو أن واضعى هذا البرنامج والنخبة التى قامت بصياغته وبلورة أفكاره، كانت ترى أن قصر مسألة الهوية على بند واحد فى البرنامج قد لا يكون كافياً ومن ثم ارتأت أن يتخلل خطاب الهوية أهم أبواب البرنامج وفصوله. من ناحية أخرى فإن حزب الحرية والعدالة قد تجنب إفراد بند خاص بالهوية من باب فرط الثقة بالذات؛ إذ يعتبر نفسه لسان حال الأمة والإسلام، وأن ممارساته وأداءه السياسى والفكرى مغلف ومبطن بالهوية الإسلامية وليس فى حاجة لإفراد مثل هذا البند المتعلق بالهوية فهو المدافع الأول عنها. هذا فى حين أن الأحزاب الثلاثة الأخرى؛ حزب النور وحزب البناء والتنمية وحزب الوسط، قد حرصت على إفراد بند محورى للهوية، وبعنوان داخلى بارز، فقد حرص حزب النور السلفى على إبراز البند المتعلق بالثقافة والهوية بعد المقدمة مباشرة، ومن ثم فهو البند الأول فى البرنامج، وسبق بند البرنامج السياسى وذلك فضلاً عن إشارات كثيرة متناثرة فى محاور البرنامج حول الهوية والدين والشريعة والثقافة. وعلى غرار حزب النور أبرز حزب البناء والتنمية قضية الهوية الإسلامية فى الفقرة الثانية من المقدمة، وخصها بالذكر أى «الهوية الإسلامية» فى البند ثانياً المعنون «أهداف الحزب» وشغلت الرقم (1) فى هذا العنوان، ورقم (2) وأرقام 6، 7، 9، بالإضافة إلى ذلك جعل حزب البناء والتنمية مسألة الهوية البند رقم (1) فى مرتكزات وأسس النهضة الشاملة (ص3) ثم أدرجها أى الهوية ضمن الباب الأول المتعلق بالهوية والشريعة والانتماء الوطنى، وبالإضافة إلى ذلك فقد ورد ذكر الهوية والشريعة متلازمتين أو متفرقتين فى محاور أخرى من البرنامج. أما حزب الوسط فقد أشار تحت عنوان «تمهيد» إلى أن مصر اأضفت من روحها وشخصيتها كمركب حضارى ثرى بعناصره المتعددة طابعاً مميزاً على الحضارة العربية الإسلامية وأدرج مسألة الهوية فى البند رابعاً المتعلق بالثقافة والفنون. مكونات الهوية فى برامج الأحزاب الأربعة 1- الهوية والشريعة الإسلامية: يشترك حزب الحرية والعدالة وحزب النور وحزب البناء والتنمية فى اعتبار الشريعة الإسلامية التى يؤمن بها أغلبية الشعب المصرى، المرجعية والدليل وعبر كل من هذه الأحزاب عن ذلك بكلمات ومفردات مختلفة، ولكنها تؤكد ذات المعنى فالحزب الأول والأكبر وهو حزب الحرية والعدالة يؤكد بداية أهمية الجوانب الإيمانية والروحية فى تشكيل حقيقة الإنسان ويؤكد أن الشريعة الإسلامية تتضمن جملة مبادئ، من بينها وأولها الوحدة الوطنية واحترام حقوق الإنسان و«الشورى» و«الديمقراطية» وإقرار مدنية الدولة. ويؤكد الحزب فى فصل االأسس والمنطلقاتب أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع. يتفق حزب النور مع حزب الحرية والعدالة فى اعتبار مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع واعتبار المادة الثانية من الدستور «مرجعية عليا للنظام السياسى للدولة المصرية ونظاماً عاماً وإطارا ضابطاً لجميع الاجتهادات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية». ويعتبر حزب النور أن مبادئ الشريعة تتضمن تأمين الحرية الدينية للأقباط والاحتكام إلى ديانتهم فى الأحوال الشخصية ويتفق فى ذلك مع حزب الحرية والعدالة. أما حزب البناء والتنمية فيتحدث عن تطبيق الشريعة الإسلامية باعتباره «يمثل أجلى صور ترسيخ الهوية الإسلامية والحضارية لمصر». ويرى حزب البناء والتنمية أن الشريعة الإسلامية تنحاز للعدل والمساواة وتستهدف «اصلاح ومصالح الخلق» وتجمع بين الثبات والمرونة، أى ثبات الأصول والأحكام ومرونة الفروع فى الزمان والمكان. ويلاحظ فى هذا الصدد أنه بينما اكتفى حزب الحرية والعدالة بتغيير «مبادئ الشريعة ومقاصد الشريعة» كذلك فعل حزب النور، تحدث حزب البناء والتنمية عن الشريعة الإسلامية دون ذكر المبادئ والمقاصد، وأكد ضرورة تقنين أحكام الشريعة الإسلامية تمهيداً لتطبيقها. أما حزب الوسط فقد تميز عن هذه الأحزاب الثلاثة بعدم ذكر مبادئ الشريعة أو مقاصدها أو أحكامها أو تطبيقها على الأقل -فى حدود الوثيقة الخاصة ببرنامج الحزب المنشورة- بل تحدث البرنامج عن الحضارة العربية الإسلامية والمركب الثقافى المصرى الذى منحها طابعاً مميزاً لا يقصى أو يستبعد المكونات الثقافية الأخرى فى الهوية المصرية سواء كانت قبطية أو فرعونية أو نوبية أو بدوية أو حضرية. وذلك لا يعنى بالضرورة أن الحزب لا يعتمد المرجعية الإسلامية الحضارية الوسطية، أو أنه يعارض تطبيق الشريعة بمبادئها أو بمقاصدها أو بأحكامها وذلك إذا ما أخذنا فى الاعتبار الأداء السياسى العملى للحزب ووقوفه صفاً واحداً خلف قيادة حزب الحرية والعدالة فى مختلف المواقف الفاصلة فى تحديد هوية الدولة والمجتمع. 2- اللغة العربية تكتسب اللغة كما سبق أن أشرنا أهمية خاصة فى تشكيل الهويات فهى عامل توحيد للوجدان والمعارف ووسيط بين الماضى والحاضر والمستقبل فى أية جماعة بشرية، ومن ثم اهتمت هذه الأحزاب الأربعة بقضية اللغة العربية، والتى هى لغة القرآن والوحى والفقه والحديث والتفسير والتراث عموماً، ومظهر لتميز الحضارة العربية الإسلامية، وقد تفاوت هذا الاهتمام من حزب لآخر. فحزب الحرية والعدالة وهو أكبر هذه الأحزاب لم يمنح اللغة العربية حيزاً كبيراً من الاهتمام، إذا ما استثنينا النص على اإقرار اللغة العربية فى المراحل الأولى للتعليم باعتباره أحد القواعد المهمة وتعريب العلوم والتعليم والترجمة عن اللغة العربية إلى اللغات الأخرى ومكافحة الأمية». اعتبر حزب النور «اللغة العربية رمزا لهويتنا وحافظة لوجودنا.فى معالجته لقضية اللغة أشار حزب البناء والتنمية إلى مظاهر تدهور اللغة العربية وآدابها وفنونها اتدنى مستوى المثقفين والمتعلمين فى تطبيق قواعد النحو والكتابة. أما حزب الوسط فقد اعتبر أن اللغة العربية هى أحد العنصرين الأساسيين اللذين يرتبطان بالهوية. ويبدى حزب الوسط انزعاجه من وجود مدارس فى مصر لا يدرس طلابها المصريون اللغة العربية ولا تخضع بعض المناهج لأية رقابة. وقد انفرد حزبا الحرية والعدالة والبناء والتنمية بالنص فى برنامجيهما على التوسع فى إنشاء الكتاتيب والاهتمام بها. 3- الهوية الإسلامية لمصر تتفق هذه الأحزاب الإسلامية الأربعة على أن هوية مصر إسلامية استناداً إلى أن أغلبية المصريين مسلمون، وهو الأمر الذى أفضى بهذه الأحزاب ربما باستثناء حزب الوسط الذى خلا برنامجه من الإشارة إلى الشريعة بمختلف صيغها المطروحة فى برامج الأحزاب الثلاثة. 4- الأخلاق والقيم حرصت الأحزاب الأربعة فى برامجها على إبراز الجانب الأخلاقى والقيمى والروحى فى رؤيتها للهوية. بداية يؤكد حزب الحرية والعدالة فى برنامجه الجوانب الفكرية والإيمانية والروحية والأخلاقية والوجدانية باعتبارها تشكل حقيقة الإنسان وذلك استناداً إلى التفرقة بين المسائل المادية المرتبطة بالإصلاح وتلك المسائل المعنوية والروحية والتى لا تقل أهمية عن سابقتها فى مضمار الإصلاح والنهضة. ويدرج حزب الحرية والعدالة «موت الضمير وفساد الأخلاق» باعتبارها من أهم الأسباب التى فجرت ثورة 25 يناير عام 2011. أما حزب النور فهو يرى «أن إقامة دولة عصرية حضارية» لابد أن ترتكز على ارسالة حضارية راقية ترفع قيمة الأخلاق. ويحرص برنامج حزب النور على الربط بين «الشريعة الإسلامية والمبادئ الأخلاقية كالإخلاص والصدق وإتقان العمل. ويرى حزب النور «أن التعليم وسيلة للارتقاء بالأخلاق والقيم الفاضلة وتزكية النفس». وعلى غرار حزب الحرية والعدالة وحزب النور. يؤكد حزب البناء والتنمية أن الفساد الأخلاقى أحد جوانب الفساد فى مصر فى ظل النظام السابق للثورة، ويشير إلى ضرورة ترسيخ القيم الإسلامية فى المجتمع وأن «طريق نهضتنا يجب أن يمر عبر تقوية قيمنا الدينية والأخلاقية ومثلنا العليا». ويربط برنامج الحزب بين التنمية البشرية والمجتمعية وبين البناء الإيمانى والأخلاقى والذى يحقق ارتباط المواطن بربه مما يؤكد الرقابة الذاتية على النفس ونوازعها ويكسبه الأخلاق القويمة والقيم النبيلة التى تردع عن سلوك سبل الفساد والإفساد.... من ناحية ثانية فإن حزب الوسط يتفق مع الأحزاب الثلاثة حول ضرورة الأخلاق والقيم لمشروع الإصلاح ويرى الحزب «أنه لا يمكن فصل الجانب القيمى والأخلاقى عن عملية التنميةب ذلك أن اانهيار المنظومة الأخلاقية فى المجتمع تؤدى إلى الإخلال بقيم العدل والمساواة». 5- طبيعة الدولة تتفق أحزاب الحرية والعدالة وحزب النور وحزب البناء والتنمية على أن الدولة المصرية دولة مدنية، يؤكد حزب الحرية والعدالة فى برنامجه بعنوان «دولة مدنية» أن الدولة الإسلامية بطبيعتها دولة مدنية، فهى ليست دولة عسكرية يحكمها الجيش، ولا يسوسها وفق أحكام ديكتاتورية، كما أنها ليست دولة بوليسية تهيمن عليها أجهزة الأمن، كما أنها ليست دولة (ثيوقراطية) تحكمها طبقة رجال الدين «فليس فى الإسلام رجال دين وإنما علماء متخصصون- فضلاً عن أن تحكم بالحق الإلهى». والشريعة بطبيعتها «وفق برنامج الحرية والعدالة- إضافة إلى الجوانب المتعلقة بالعبادات والأخلاق تنظم مختلف جوانب حياة المسلمين والمشاركين لهم فى الوطن من غير المسلمين».. فى ذات السياق يدعو حزب النور عبر برنامجه الإقامة دولة عصرية على الأسس الحديثة، تحترم حقوق التعايش السلمى بين أبناء الوطن جميعاً، بعيداً عن النموذج الثيوقراطى الذى يدعو لدولة تدعى الحق الإلهى فى الحكم. ويرى حزب البناء والتنمية أن الدولة التى يطمح إليها هى «دولة لها هوية إسلامية حضارية يشارك فى بناء مؤسساتها جميع المصريين» وهذه الدولة اضد حكم الديكتاتورية عسكرية كانت أم مدنية، كما أنها دولة لا تقوم على الحكم بالحق الإلهى الثيوقراطى لكونها لا تعرف ولا تعترف بحكم رجال الكهنوت حيث لا كهنوت فى الإسلام... لم يرد فى برنامج حزب الوسط أية نصوص تحدد طبيعة الدولة التى يطمح إلى بنائها وإن كان يمكن أن تتحدد هذه الملامح من خلال رؤية الحزب لدور الدولة فى تحقيق العدل ومحاربة الفقر وتطوير التعليم والحفاظ على الهوية والشخصية الحضارية فهى دولة قادرة على التفاعل والتعامل بندية فى مجال العلاقات الدولية وبمقدورها الاستناد على الثقة بالذات الوطنية. نقد خطاب الهوية فى برامج الأحزاب الإسلامية ننتقل فى هذا الجزء من الدراسة إلى نقد خطاب الأحزاب الإسلامية حول توصيف وتشخيص عناصر الهوية كما عالجتها برامج هذه الأحزاب ونلاحظ بداية أن خطاب الهوية الإسلامى لا يوجد منعزلاً أو وحيداً منفرداً فى المجتمع ولكنه بالضرورة وبحكم طبيعة الأشياء والمجتمع والمنطق يوجد فى حقل تنافسى مع الخطابات الأخرى حول الهوية وفى حالة صراع معها ومحاولة للاستحواذ على الرموز والمكونات الرمزية والمعنوية التى تتشكل فيها هذه الخطابات ويحاول بالتأكيد نزع المصداقية والمشروعية عن الخطابات المنافسة له باعتبارها خطابات هوية غير دينية أو غير إسلامية وافدة وليست أصيلة، مقتبسة وحديثة وليست نابعة من الذات الحضارية الغارقة فى القدم. ومن ثم فخطاب الهوية الإسلامى وإن بدأ مسالماً وطبيعياً وغير عدائى، إلا أنه مع ذلك هجومى إزاء الخطابات الأخرى التى تتمركز حول الهوية الوطنية والقومية أو غيره من خطابات الهوية. ويمكن تركيز نقد مفهوم الهوية كما شخصته هذه الأحزاب فى الأبعاد التالية: 1- المكون الإيديولوجى فى مفهوم الهوية: نستخدم مفهوم الإيديولوجيا فى هذا السياق بمعنى الصيغة الفكرية والسياسية التى تستخدم كأداة سياسية للحشد والتعبئة واختزال الواقع وتبسيطه وإخفاء مكوناته الأخرى المختلفة وانتقاء ما يتناسب مع الجماعة التى تتبنى هذه الإيديولوجيا من الواقع وإقصاء واستبعاد ما لا يتلاءم مع أهداف هذه الجماعة ومراميها ومصالحها إن بالمعنى السياسى أو الاقتصادى أو الثقافى. ووفقاً لذلك فإن مفهوم الهوية الذى تبنته هذه الأحزاب تميز بالاختزال والتبسيط والإخفاء أى السكوت على المكونات والعناصر الأخرى الداخلة فى تكوين الهوية وكمثال على ذلك اختزل مفهوم الهوية الإسلامى فى برامج هذه الأحزاب تاريخ المجتمع المصرى الغارق فى القدم منذ آلاف السنين فى حقبة تاريخية واحدة هى التاريخ الإسلامى، ولأن هذا الخطاب الإسلامى حول الهوية يعرف التركيب المعقد والمركب لتاريخ مصر والمصريين فإنه لا يملك إلا الإشارة العابرة لمختلف الحقب التاريخية الفرعونية والقبطية والحديثة وغيرها، فى حين أن هذه الإشارة العابرة فى سياق نص البرنامج لم تكتسب أية أهمية تذكر، ولم يرتب ذكرها أية نتائج فى صياغة مفهوم الهوية (ربما باستثناء نظرة حزب الوسط) وكأن هذا الخطاب أراد بهذه التذكرة إعفاء صاحبه من الجهل بتاريخ مصر، أو كأنه أراد سرد هذه الحقب التاريخية والقول بأنها عابرة، لم تؤثر فى الطابع الإسلامى الحضارى للأمة المصرية أو كأن هذا الطابع الإسلامى لهوية مصر ينسخ ويلغى ما قبله من تاريخ. 2- التعالى والتسامى فوق التاريخ: يتجاهل مفهوم الهوية الإسلامى التاريخ بوقائعه وحادثاته فالطابع الإسلامى للهوية جوهر ثابت سرمدى لم يتغير ولم يخضع لوقائع التاريخ ومنطقه ما هو قديم منه وما هو حديث، ومن ثم فهو يفترض أن الطابع الإسلامى للهوية خارج التاريخ وفوق التاريخ وعابر للتاريخ، فلم يطرأ على مصر الإسلامية أو غيرها من البلدان الإسلامية والعربية أى تغيير، وبقيت كما هى بمعزل عن العالم الحديث والحضارة الحديثة بمبادئها ومثلها وقيمها ومنتجاتها ومعارفها العلمية والتكنولوجية. تتجاهل هذه النظرة المتعالية للتاريخ دور التفاعل والاقتباس والمحاكاة بين الحضارات والثقافات، فلم توجد حضارة منعزلة أو لم تتأثر بحضارات أخرى، يقول مؤرخ الحوليات الفرنسى المشهور «فرناند بروديل» إنه لا يستطيع كتابة تاريخ إقليم فى فرنسا دون معرفة تاريخ فرنسا، ولا يستطيع معرفة تاريخ فرنسا دون معرفة تاريخ حوض البحر المتوسط، بل إنه لا يمكن معرفة تاريخ فرنسا دون معرفة تاريخ العالم، وذلك للتدليل على الارتباط والتفاعل والتأثير فى التاريخ بين الدول والحضارات والثقافات. 3- عدم تجانس المرجعيات: قد يفضى الإطلاع غير المدقق لبرامج الأحزاب الإسلامية الدينية التى عالجنا موقفها من الهوية إلى التثبت من مرجعيتها الدينية الإسلامية أو أن هذه المرجعية الإسلامية هى مرجعيتها الوحيدة نظراً لكثرة الإشارات الدينية وتعدد الدلالات المرجعية الإسلامية. بيد أن التدقيق فى محتوى هذه البرامج المختلفة ومحاورها الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية سوف يجعل المرء يفاجأ باختلاط هذه المرجعية الدينية الإسلامية بمرجعيات أخرى لا دينية أو علمانية إذا ما استخدمنا تعيبرات هذه الأحزاب. ذلك أن غالبية المبادئ الاقتصادية والسياسية والاجتماعية خاصة إذا ما استثنينا قضية الشريعة ومبادئها ومقاصدها تكاد تكون هى ذاتها المبادئ والآليات الحديثة والمستحدثة والمقتبسة من الحضارة الغربية الحديثة فى حقل السياسة والاقتصاد، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تبنى الديمقراطية باعتبارها تطابق الشورى الإسلامية والفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية والمساواة والمواطنة وحقوق الإنسان واحترام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية. أما فى مجال الاقتصاد فالرؤية الاقتصادية لحزب الحرية والعدالة تقرن نفسها «بمرجعية النظام الاقتصادى الإسلامى» والذى تتمثل غايته فى عبادة الخالق تبارك وتعالى بالمعنى الواسع التى تتضمن كل تصرفات الفردب وباستثناء هذه العبارة فإن المبادئ الاقتصادية وقوى العرض والطلب وآلية الأسعار والمفاوضات المالية ومختلف صيغ التمويل والاستثمار والملكية العامة وملكية القطاع العام والملكية الخاصة والتنمية المستدامة والضرائب. مبادئ حديثة خارج السياق الإسلامى وهذه المبادئ الاقتصادية المطبقة عالمياً لن يغير من طبيعتها إضافة بعض التعبيرات الإسلامية السابقة أو اللاحقة عليها فى النص، تماما كما أن أسبقية مفهوم «الشورى» على مفهوم الديمقراطية لن يغير من جوهر الديموقراطية كآلية ومبادئ تطورت فى الحضارة الغربية وأصبحت منتجاً مفهومياً وقيمياً لا يمكن تجاهله. يربط حزب النور بين تحقيق الديموقراطية وإطار الشريعة الإسلامية وهو ما يعنى تكوين الأحزاب وكفالة حريتها فى النشاط فى ضوء الالتزام بالنظام العام والتداول السلمى للسلطة، ولن يؤثر ذلك بطبيعة الحال على الديموقراطية من حيث أنها غربية وأصبحت عالمية. أما حزب البناء والتنمية، فعندما يعالج محيط الأمن القومى المصرى فإنه يشمل وفق هذا البرنامج الدوائر الثلاث الدائرة العربية والدائرة الإسلامية والدائرة الإفريقية وهى علاقات ضرورة لحفظ الأمن القومى وحماية العمق الاستراتيجى، وهى ذات الدوائر الثلاث التى طرحها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر فى حقبة الخسمينيات، أضاف إليها حزب البناء والتنمية دائرة أخرى أسماها الدائرة القطرية ويقصد بها مصر، ربما للتمييز والتميز عن دوائر عبد الناصر الثلاثة. يؤمن حزب الوسط بالحرية الاقتصادية ويعتقد أنها مفتاح النهضة الاقتصادية ولكنه يشدد على اختلاف اقتصاد السوق من بلد لآخر واختلاف آلياته وتميز دور الدولة. من الممكن أن نفهم اختلاط المرجعيات وعدم تجانسها على أكثر من نحو، حيث يمكن فهم ذلك استناداً إلى أن هذه الأحزاب الإسلامية لا تريد أن تغرق فى الرمزية الدينية والإشارات الدينية حتى لا تفقد التواصل مع المواطنين بتنوعهم واختلاف مرجعياتهم وحتى تتجنب سوء الفهم والاتهام بالتخلف والانفصال عن الواقع المعاصر، كما يمكن أن يفهم اختلاط المرجعيات على أساس قصور أصحاب ومنظرى المرجعية الإسلامية عن خلق وبلورة تصورات وفضاءات سياسية واقتصادية واجتماعية من داخل الإسلام والثقافة الإسلامية، وأخيراً وليس آخرا قد يفهم ذلك على أنه مجرد مناورة لحرف الانتباه عن حقيقة هذه المرجعية الدينية أو للاكتفاء بما هو أساسى من هذه المرجعية أى تطبيق الشريعة ومبادئها وأسلمة المجتمع والدولة. 4- وهم البحث عن الأصالة والفرادة: يتميز خطاب الإسلام السياسى عامة وخطاب الهوية المتفرع عنه خاصة بغلبة وهم البحث عن الأصالة والتفرد، ويستخدم مفهوم الأصالة فى هذا الخطاب لإقصاء العلمانية ومختلف الصيغ الإيديولوجية التى تستند إليها كالقومية والوطنية والليبرالية والاشتراكية، فبما أن الأصالة فى هذا الخطاب تعنى الإسلام والثقافة الإسلامية والموروث الحضارى الإسلامى، فمعنى ذلك أن جميع الأفكار السياسية والثقافية والإيديولوجية الأخرى وافدة فى أحسن الأحوال وعارضة فى أسوأ الأحوال أى طارئة وتخرج عن الأصالة ومغتربة ومتغربة ومصيرها إلى زوال ولا تناسب خصوصيتنا الحضارية والدينية والثقافية. وترتب على ذلك أن خطاب الهوية الإسلامى ينسب إلى الأصالة كافة الفضائل فهى نابعة من الذات وتلائم خصوصيتها وتعبر عن مصالحنا وقيمنا وأخلاقنا، فى حين أن هذا الخطاب ينسب إلى الأفكار والإيديولوجيات الأخرى المرتبطة بالعلمانية أو اللا دينية كافة النقائص فهى خارج الذات وتتناقض مع الخصوصية الحضارية التى تميزنا عن غيرنا ولا تعبر فى نفس الوقت عن قيمنا وأفضلياتنا وأخلاقنا. متلازمة الخير والشر ترتبط بهذا التشخيص، فيكمن الخير كل الخير فى الأصالة بينما يكمن الشر كل الشر فى العلمانية وفى حين تعنى الأصالة الإتساق مع الذات الحضارية للأمة فإن العلمانية انفصام عن الذات وانفصال عنها، وهكذا يضع خطاب الهوية الإسلامى الأصالة فى تناقض صريح وواضح مع العلمانية والأفكار المرتبطة بالحداثة السياسية والحضارة الغربية. وحل ومعالجة هذا التناقض لا يمكن إلا فى حالة العودة النكوصية للماضى، أو بالأحرى حقبة تاريخية من الماضى هى حقبة السلف الصالح التى شهدت تطبيق هذه الأصول واعتبارها مرشداً ودليلاً ونموذجاً يمكن الاهتداء به والسير على منواله إذا ما تعذر إعادة إنتاجه فى الواقع بسبب تغير هذا الواقع وتعقد احتياجاته وضروراته. من ناحية أخرى فإن خطاب الهوية الإسلامى ينزع نحو الفرادة والتفرد الذى يحظى به العرب والمسلمون، فهم يمثلون الاستثناء من القاعدة وما ينطبق على غيرهم من الأمم والشعوب لا ينطبق عليهم بالضرورة فهم يحظون بخصوصية فريدة ومتفردة تمنعهم من تبنى واعتماد تلك الأفكار التى صاحبت التوسع الاستعمارى والامبريالى والعولمة. وخطاب الفرادة يفضى إلى الحذر والشك والتمركز حول الذات الحضارية والشروع فى إقامة أسوار العزلة والتفنن فى المقاومة للوافد من الخارج والرغبة الدائمة فى فحص مضمون هذا الوافد ومحتواه وإخضاعه للتدقيق ومدى ملاءمته للروح والطبيعة الإسلامية، ويعزز أيضاً من آليات وميكانيزمات الدفاع. والمفارقة الكبرى تتمثل فى أن إسلاميى اليوم أى أنصار الإسلام السياسى الباحثين عن الأصالة والماضى قد يرفضون العودة إلى استلهام ميراث ابن رشد والفارابى وابن سينا، وذلك لأن هذا الميراث تحكمه النزعة العقلانية أى تلك النزعة التى تعزز الحوار بين الثقافات وتدعم الإثراء المتبادل بين الحضارات، وذلك يعنى أن العودة المنشودة ليس لتراث الإسلام ككل بل لجزء منه وحقبة معينة من التاريخ الإسلامى توافق أغراضهم ومراميهم السياسية.