خطاب الهوية الإسلامي لا يوجد منعزلا أو وحيدا منفردا في المجتمع ولكنه بالضرورة وبحكم طبيعة الأشياء يوجد في حقل تنافس مع الخطابات الأخري حول الهوية وفي حالة صراع معها ومحاولة للاستحواذ علي الرموز والمكونات الرمزية والمعنوية التي تتشكل منها هذه الخطابات ويحاول نزع المصداقية والمشروعية عن الخطابات المنافسة. ومن ثم فخطاب الهوية الإسلامي ليس مسالما أو طبيعيا أو غير عدائي, فهو في حالة هجومية إزاء الخطابات الأخري حول الهوية الوطنية والقومية. ومن خلال دراسة برامج الأحزاب الإسلامية; حزب الحرية والعدالة وحزب النور وحزب البناء والتنمية وحزب الوسط حول الهوية ومكوناتها يمكننا أن نسوق الانتقادات التالية: 1- المكون الإيديولوجي في مفهوم الهوية: نستخدم مفهوم الإيديولوجيا في هذا السياق بمعني الصيغة الفكرية والسياسية التي تستخدم كأداة سياسية للحشد والتعبئة واختزال الواقع وتبسيطه وإخفاء مكوناته الأخري المختلفة وانتقاء ما يتناسب مع الجماعة التي تتبني هذه الإيديولوجيا من الواقع وإقصاء واستبعاد ما لا يتلاءم مع أهداف هذه الجماعة ومراميها ومصالحها إن بالمعني السياسي او الاقتصادي أو الثقافي. ووفقا لذلك فإن مفهوم الهوية الذي تبنته هذه الأحزاب تميز بالاختزال والتبسيط والإخفاء أي السكوت علي المكونات والعناصر الأخري الداخلة في تكوين الهوية وكمثال علي ذلك اختزل مفهوم الهوية الإسلامي في برامج هذه الأحزاب تاريخ المجتمع المصري الغارق في القدم منذ آلاف السنين في حقبة تاريخية واحدة هي التاريخ الإسلامي, ولأن هذا الخطاب الإسلامي حول الهوية يعرف التركيب المعقد والمركب لتاريخ مصر والمصريين فإنه لا يملك إلا الإشارة العابرة لمختلف الحقب التاريخية الفرعونية والقبطية والحديثة وغيرها, في حين أن هذه الإشارة العابرة في سياق نص البرنامج لم تكتسب أي أهمية تذكر, ولم يرتب ذكرها أي نتائج في صياغة مفهوم الهوية( ربما باستثناء نظرة حزب الوسط) وكأن هذا الخطاب أراد بهذه التذكرة إعفاء صاحبه من الجهل بتاريخ مصر, أو كأنه أراد سرد هذه الحقب التاريخية والقول بأنها عابرة, لم تؤثر في الطابع الإسلامي الحضاري للأمة المصرية أو كأن هذا الطابع الإسلامي لهوية مصر ينسخ ويلغي ما قبله من تاريخ. 2- التعالي والتسامي فوق التاريخ: يتجاهل مفهوم الهوية الإسلامي التاريخ بوقائعه وحادثاته فالطابع الإسلامي للهوية جوهر ثابت سرمدي لم يتغير ولم يخضع لوقائع التاريخ ومنطقه ما هو قديم منه وما هو حديث, ومن ثم فهو يفترض أن الطابع الإسلامي للهوية خارج التاريخ وفوق التاريخ وعابر للتاريخ, فلم يطرأ علي مصر الإسلامية أو غيرها من البلدان الإسلامية والعربية أي تغيير, وبقيت كما هي بمعزل عن العالم الحديث والحضارة الحديثة بمبادئها ومثلها وقيمها ومنتجاتها ومعارفها العلمية والتكنولوجية كما لم يترك ما يفوق القرنين من الزمان من التوسع الاستعماري والإمبريالي والحداثة والتحديث الطوعي والقسري والاندماج في السوق الرأسمالية العالمية ولم تترك العولمة بأبعادها المختلفة أي أثر علي هوية مصر أو غيرها من البلدان العربية والإسلامية وما تركته هذه الظواهر العالمية التي لم يقتصر تأثيرها فحسب علي البلدان العربية بل امتد للعالم كله من تأثير لم يغير من هذا الجوهر وتلك الطبيعة الإسلامية لهذه المجتمعات من مدارس عامة وجامعات ونظم حديثة في إدارة الدولة وفنون وعلوم, إذ يكفي أن تقوم مصر وغيرها من البلدان الإسلامية بنفض هذا الغبار والتخلص منه بين عشية وضحاها. كما أن التعالي علي التاريخ يقصر النظرة إلي هذه الوقائع التاريخية العالمية علي أنها مجرد مؤامرة لمحو وتذويب الهوية الإسلامية وفك الارتباط بين العرب وبين ديانتهم الإسلامية ويحول دون النظر إلي هذه التطورات كسنن كونية تمتد بامتداد التاريخ البشري وصراعات القوة والنفوذ علي الصعيد العالمي وفق علاقات وموازين القوي, هكذا كان العالم قديما وحديثا وقد يستمر علي هذه الوتيرة ما لم تتوافر الإرادة الإنسانية السياسية والفكرية والأخلاقية علي تغيير هذه القوانين. 3- عدم تجانس المرجعيات: قد يفضي الإطلاع غير المدقق لبرامج الأحزاب الإسلامية الدينية التي عالجنا موقفها من الهوية إلي التثبت من مرجعيتها الدينية الإسلامية أو أن هذه المرجعية الإسلامية هي مرجعيتها الوحيدة نظرا لكثرة الإشارات الدينية وتعدد الدلالات المرجعية الإسلامية. بيد أن التدقيق في محتوي هذه البرامج المختلفة ومحاورها الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية سوف يجعل المرء يفاجأ باختلاط هذه المرجعية الدينية الإسلامية بمرجعيات أخري لا دينية أو علمانية إذا ما استخدمنا تعبيرات هذه الأحزاب. ذلك أن غالبية المبادئ الاقتصادية والسياسية والاجتماعية خاصة إذا ما استثنينا قضية الشريعة ومبادئها ومقاصدها تكاد تكون هي ذاتها المبادئ والآليات الحديثة والمستحدثة والمقتبسة من الحضارة الغربية الحديثة في حقل السياسة والاقتصاد, فعلي سبيل المثال لا الحصر, تبني الديمقراطية باعتبارها تطابق الشوري الإسلامية والفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية والمساواة والمواطنة وحقوق الإنسان واحترام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية. يربط حزب النور بين تحقيق الديموقراطية وإطار الشريعة الإسلامية وهو ما يعني تكوين الأحزاب وكفالة حريتها في النشاط في ضوء الالتزام بالنظام العام والتداول السلمي للسلطة, ولن يؤثر ذلك بطبيعة الحال علي الديمقراطية من حيث إنها غربية وأصبحت عالمية. أما حزب البناء والتنمية, فعندما يعالج محيط الأمن القومي المصري فإنه يشمل وفق هذا البرنامج الدوائر الثلاث الدائرة العربية والدائرة الإسلامية والدائرة الإفريقية وهي علاقات ضرورية لحفظ الأمن القومي وحماية العمق الاستراتيجي, وهي ذات الدوائر الثلاث التي طرحها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر في حقبة الخسمينيات, أضاف إليها حزب البناء والتنمية دائرة أخري أسماها الدائرة القطرية ويقصد بها مصر, ربما للتمييز والتميز عن دوائر عبد الناصر الثلاث. من الممكن أن نفهم اختلاط المرجعيات وعدم تجانسها علي أكثر من نحو, حيث يمكن فهم ذلك استنادا إلي أن هذه الأحزاب الإسلامية لا تريد أن تغرق في الرمزية الدينية والإشارات الدينية حتي لا تفقد التواصل مع المواطنين بتنوعهم واختلاف مرجعياتهم وحتي تتجنب سوء الفهم والاتهام بالتخلف والانفصال عن الواقع المعاصر, كما يمكن أن يفهم اختلاط المرجعيات علي أساس قصور أصحاب ومنظري المرجعية الإسلامية عن خلق وبلورة تصورات وفضاءات سياسية واقتصادية واجتماعية من داخل الإسلام والثقافة الإسلامية, وأخيرا وليس آخرا قد يفهم ذلك علي أنه مجرد مناورة لحرف الانتباه عن حقيقة هذه المرجعية الدينية أو للاكتفاء بما هو أساسي من هذه المرجعية أي تطبيق الشريعة ومبادئها وأسلمة المجتمع والدولة. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد