إذا كان انشغال حزب النور بالمجردات قد انعكس في اختزاله الدستور فيما سماه بمفهوم الهوية- ولكن لا بمعناه المنفتح المتحرك, بل بمعناه المنغلق الجامد- فإن تفكيره الاختزالي لم يقف عند هذا الحد, بل تجاوز إلي اختزال الهوية نفسها في إحدي مواد دستور الإخوان المعطل. وهي المادة219 التي تنطوي- لسوء الحظ- علي ترسيخ المفهوم المذهبي/الطائفي للهوية. إن ذلك يعني أن الحزب لا يقف عند المضمون الديني للهوية, بكل ما ينطوي عليه من الاستعادة الكاملة للفكرة التي تقوم عليها الدولة ما قبل الحديثة التي تتميز بحضور الأفراد في مجالها العام بهوياتهم الدينية فقط, بل يتنزل إلي المضمون الطائفي/المذهبي للهوية, بكل ما ينطوي عليه ذلك من استعادة حروب الدماء والمقاتل بين المذاهب, التي يكاد العراق أن يكون المثال الأبرز عليها في العصر الراهن. فحين يقرأ المرء تلك المادة التي يقول نصها: مبادئ الشريعة الإسلامية هي أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة, فإنه يتبين ضربا من الاختزال الذي يجري تنزيل الشريعة بمقتضاه من مستوي المبدأ الشامل( الذي يتسع ليستوعب داخله جميع الأديان والملل تقريبا بحسب الأصولي الكبير أبوإسحاق الشاطبي), ليس فقط إلي مستوي الدين أو الملة الواحدة, بل إلي مستوي المذاهب الجزئية داخل هذا الدين الواحد. ويتحقق هذا التنزيل من خلال آلية رد الكل( مبادئ الشريعة) إلي الجزء( الأدلة الكلية والقواعد الفقهية والأصولية ومصادرها في مذاهب أهل السنة). إن جزئية هذه الأقسام الأخيرة( أي الأدلة والقواعد والمصادر المذهبية) تأتي من اختصاصها بدين بعينه, في حين أن مبادئ الشريعة هي, وبحسب المفسرين المسلمين الكبار, تختص بالأديان جميعا. فقد حرص المفسرون الكبار( الطبري والقرطبي والرازي) علي التمييز في الشرائع بين قسمين; منها ما يمتنع دخول النسخ والتغيير فيه, بل يكون واجب البقاء في جميع الملل والأديان, كالقول بحسن الصدق والعدل والإحسان, وكالقول بقبح الكذب والظلم والإيذاء, ومنها ما يكون من الفروع التي يدخل عليها النسخ والتغيير, وأنه لا خلاف أن الله تعالي لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح, وإنما خالف بينها في الفروع, حسبما علمه سبحانه. وإذن فإنه الإلحاح علي التمييز بين المبادئ التي لا تختص بدين بعينه, بل تتوافق عليها الأديان جميعا, وبين الفروع التي يختلفون فيها, ويختص بها أهل دين معين. ولسوء الحظ, فإن ما يقال في تفسير مبادئ الشريعة أنها الأدلة الكلية والقواعد الأصولية والفقهية ومصادرها المذهبية, إنما ينطوي علي الكثير مما يدخل في باب الفروع التي هي محل للخلاف بين المسلمين أنفسهم. فإن الإجماع والقياس, وهما من الأدلة الكلية, يعدان موضوعا للخلاف بين الأصوليين أنفسهم. وإذا كانت الفروع الجزئية تدخل في تركيب الأدلة الكلية- أو علي الأقل بعضها- علي هذا النحو, فإن دخولها في القواعد الأصولية والفقهية( التي هي من وضع الأصوليين والفقهاء), وفي المصادر المعتبرة التي تختص بأهل السنة والجماعة بالذات, يكون أكثر ظهورا لا محالة. وفي كلمة واحدة, فإن ذلك يعني استحالة رد مبادئ الشريعة إلي ما تضعه تحتها المادة(219) من الأدلة والقواعد والمصادر; لأن هذه الأخيرة تبقي من قبيل الجزئي الذي لا يمكن رد المبدأ الكلي إليه أبدا. والحق أن إصرار حزب النور علي استبقاء هذه المادة في الدستور إنما يرتبط بما تتيحه- عبر هذا الاختزال للمبدأ الكلي في الفروع الجزئية- من فتح الباب أمام إحلال أحكام الشريعة محل مبادئها. ومن هنا أن الحزب يعلق موافقته علي استبعاد المادة(219) من الدستور علي شرط استبدال لفظة الأحكام بكلمة المبادئ في المادة الثانية. وإذ يعني ذلك أن المادة(219) تقوم, وعلي نحو صريح, مقام إبدال لفظة أحكام بكلمة مبادئ في المادة الثانية, فإنه يؤكد أن القصد من وراء الإلحاح علي إبقاء هذه المادة في الدستور يرتبط بحقيقة أنها الباب إلي ما يبتغيه حزب النور من تصوير الشريعة علي أنها هي الأحكام. وإذا كانت خطورة اختزال الشريعة في الأحكام تأتي من كون الأحكام هي مما ينتجه البشر ضمن سياقات التاريخ والمجتمع; وبما يعنيه ذلك من إضفاء القداسة علي ما هو تاريخي واجتماعي, فإن الخطر لا يقف عند هذا الحد, بل يتجاوز إلي اعتبار الأحكام ساحة لتكريس الانقسام المذهبي. فإن الإشارة إلي الطابع المذهبي السني للهوية الإسلامية في المادة(219), ترتبط بالسعي إلي إقصاء الشيعة من المجال المصري العام. وللغرابة, فإن ذلك قد انطوي علي استدعاء الانقسام المذهبي إلي مجال الفقه الذي استقر النظر إليه علي أنه ساحة للتقارب بين المذاهب. إذ الحق أن الانقسام المذهبي في الإسلام إنما ينتمي إلي مجال العقيدة, وليس إلي مجال الفقه أو الشريعة. ويرتبط ذلك بحقيقة أن الخلاف بين المسلمين قد كان في أصله خلافا سياسيا, ثم تعالي ليصبح خلافا في العقيدة التي كان لابد أن تصبح لذلك ساحة الصدام والخلاف الانقسامي. وإذ يلح حزب النور علي تحويل المجال الفقهي إلي ساحة للتمايز والانقسام بين الفرقاء, فإن ذلك يعني أنه يبغي إغلاق الباب أمام كل من يسعي إلي ترسيخ التقارب والوفاق بين المسلمين. وليس من شك فيما يعنيه ذلك من أن الهوية- كما يفهمها الحزب- إنما تتحدد من خلال آليات الانقسام والتمايز, وليست الهوية التي تنبني بحسب آليات الاستيعاب والتقارب. لمزيد من مقالات د.على مبروك