علامات استفهام كثيرة أثارها التدخل البري التركي في شمال سوريا، أهمها ذلك الصمت الروسي المفاجئ علي اجتياح الدبابات التركية لمدينة جرابلس السورية، بينما كان الرئيس الروسي بوتين يتوعد أي طائرة تركية تجتاز المجال الجوي السوري بأمتار. كما جاء انسحاب تنظيم داعش خلال ساعات قليلة من مجرد إطلاق المدفعية التركية، والذي لم يترك مدينة احتلها إلا بعد قتال مرير، وهو ما يؤكد حرص داعش علي عدم الصدام مع تركيا، والتي تملك أوراقا مهمة للضغط عليه. وانقلب الموقف الأمريكي فجأة تجاه الأكراد، وتخلت أمريكا بسرعة عن خطة سيطرة أكراد سوريا علي طول الحدود الشمالية، الممتدة من الرقة شرقا وحتي عفرين في أقصي الغرب، وإقامة منطقة حكم ذاتي، تمهد لتقسيم سوريا، واستجابت أمريكا بسرعة لمطلب تركيا بانسحاب الأكراد إلي مساحة محدودة شرق نهر الفرات. كما تراجع أكراد سوريا بشكل مهين، وخفت صوتهم العالي حول الحكم الذاتي وإقامة الدولة الكردية، وعدم الانسحاب من أي أراض حرروها من تنظيم داعش، واكبه تراجع آخر لرئيس حكومة كردستان العراق مسعود برزاني عن حق الأكراد في السيطرة علي مناطق في الموصل وباقي محافظة نينوي، والتي ادعي أنها حق تاريخي للأكراد، وأنهم لن يتركوا أرضا حرروها بالدم، وإذا به يقول إن أكراد العراق ليس لديهم أي أطماع في نينوي. ودخلت الصين فجأة علي خط المواجهة في سوريا، وإن كان تحت لافتة تقديم مساعدات وتدريبات، وهي الدولة الحذرة للغاية، والتي لم يسبق أن اهتمت بأي صراع لا يخص الصين بشكل مباشر، وزار وفد عسكري صيني دمشق، وبحث تطورات الأوضاع في سوريا والمنطقة، في خطوة نادرة ومليئة بالدلالات والرسائل. كل هذه الأحداث جرت في أقل من ثلاثة أيام، وتكشف عن خريطة جديدة لموازين القوي، أهمها التغيرات في الموقف التركي المؤثر علي موازين القوي في سوريا، والقلق الأمريكي من أن تخرج أنقرة عن دورها الرئيسي في التحالف الأمريكي، لتزيد الأمور تعقيدا أمام تحالف يتراجع كل يوم، ويخشي أن يفقد التأثير علي مسار الأحداث في سورياوالعراق، وهو ما حاول نائب الرئيس الأمريكي «بايدن» أن يتداركه خلال لقائه مع أردوغان في زيارته السريعة لأنقرة قبل أيام، وأعقبه الإعلان الأمريكي عن تراجع الأكراد إلي شرق الفرات، لكن يبدو أن التحرك الأمريكي لن يكون كافيا لإيقاف التحولات المعاكسة للمواقف الأمريكية، وأن الوقت لم يعد في صالح أمريكا وحلفائها، وأن عليهم الاحتكام إلي الحلول الدبلوماسية، قبل أن تتغير الأوضاع علي الأرض إلي الأسوأ. من المرجح أن الخطوة التركية بدخول الدبابات إلي مدينة جرابلس السورية قد جرت بموافقة روسية، وأن تركيا رأتها ضرورية لكبح جماح الطموحات الكردية المنفلتة، بفعل الدعم الأمريكي الكبير، وتدفق السلاح عليهم من أمريكا وأوروبا، ومشاركة قوات كوماندوز أمريكية وربما بريطانية في تعزيز القوات الكردية، التي لا يتناسب عددها ومستوي تدريبها مع المهام المطروحة عليها، وهي الاستيلاء علي أكبر حصة من الأراضي التي سينسحب منها داعش، والتي قد تتجاوز الشمال السوري بأكمله، وهو ما جعل الأكراد يتفقون مع أمريكا علي تغيير اسم قواتهم من «قوات الحماية الكردية» إلي «قوات سوريا الديمقراطية» ليتناسب الاسم مع المهام الجديدة للأكراد، بطلب من أمريكا مقابل الإغواء الأمريكي للأكراد بتفاحة «الاستقلال» فاندفع الأكراد خلف الوعود الأمريكية بكل حماس، ليجدوا أنفسهم أمام صدام كبير مع كل من تركياوسورياوالعراق وإيران ومن خلفهم روسيا، وربما الصين، وإذا بالحلم الكردي ينزوي بسرعة، خاصة مع تخلي أمريكا السريع عنهم بلا تردد. الاتفاق الروسي التركي الإيراني أنجز لأردوغان مطلبه الرئيسي بإبعاد شبح الدولة الكردية في سوريا، وهو الهاجس الذي عكر صفو علاقات أمريكا مع تركيا، وحان موعد تنفيذ تركيا لما وعدت به روسيا وإيران بأن يكون التدخل محدودا ومؤقتا، وأن تلتزم تركيا بوعد إيقاف مساعداتها للجماعات المسلحة، ووقف تدفق المسلحين، وهو ما سيؤدي إلي انهيار سريع للجماعات المسلحة في حلب. ومن المرجح أيضا أن دمشق كانت علي علم بالخطوة التركية، وأن إدانتها للتدخل التركي جاء ليؤكد حقها في الدفاع عن سيادتها، وألا يكون ورقة بيضاء تمنح لتركيا الحق في انتهاك أراضي سوريا في أي وقت. هكذا تبدو تركيا راضية عن دورها، واحتفظ أردوغان بالكبرياء التركية، وارتاحت دمشق أيضا لكبح جماح تحرك الأكراد نحو التقسيم، خاصة بعد الاشتباكات التي جرت في الحسكة بين الجيش السوري والأكراد، ومطالبة الأكراد بسحب القوات البرية السورية من المدينة، وتسليمها المقار الحكومية، وغيرها من المطالب التي تعني إنهاء السيادة السورية، وكذك روسيا راضية عن سير الأحداث في الاتجاه الذي ترغبه، وأن يتحقق مطلبها بوحدة الأراضي السورية، وأن يستمر الأسد في موقعه علي رأس الدولة، وهو ما وافقت عليه تركيا بعد اعتراض دام سنوات، ويأتي التدخل الصيني ولو كان شكليا ليبعث برسالة إلي الولاياتالمتحدة بأن ساحة المعركة في سوريا قد تتوسع وتمتد إلي أماكن أخري، ويدخل لاعبون جدد إلي الساحة، لتكون معارك سوريا إيذانا بظهور نظام عالمي جديد. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد