كيفية إثبات المهنة وتغيير محل الإقامة ب الرقم القومي وجواز السفر    رومانو: رويز يدخل قائمة اهتمامات النصر السعودي    اتحاد الكرة يعلن رسوم الشكاوى والتقاضي في الموسم المقبل    نجم باريس سان جيرمان يدخل اهتمامات النصر السعودي    مصرع شاب بطلق ناري في حفل زفاف شقيقه بالفيوم.. والشرطة تلقي القبض على الجاني    حبس عامل قتل زوجتة خنقا في البحيرة 4 أيام    العثور على جثة جديدة لمهاجر غير شرعي بشواطئ السلوم    طه دسوقي: تشبيهي أنا وعصام عمر بعادل إمام وسعيد صالح يحملني مسئولية كبيرة    تعرف على شخصيات المسلسل الخليجي "الصحبة الحلوة"    وكيل صحة قنا يوجه بزيادة الحضانات أجهزة التنفس الصناعي بمستشفى نجع حمادي العام    شاهد عادل حفيد الزعيم عادل إمام مع خطيبته فريدة قبل زفافهما    كاديلاك أوبتيك V موديل 2026.. سيارة رياضية كهربائية فائقة الأداء بقوة 519 حصانًا    محافظ الدقهلية: دعم لأسرة شهيد محطة وقود العاشر وتكريم لبطولته (صور)    المدعى العام لولاية كاليفورنيا: سنقاضى ترامب    حفل زفاف لاعب الأهلي السابق لؤي وائل    مصرع 3 أشخاص في حادث تحطم طائرة صغيرة بجنوب إفريقيا    «واما» يتألقون بحفل أكثر حماسة في بورتو السخنة | صور    تحسن طفيف بالحالة الصحية للفنان صبري عبد المنعم    برلمانية: مصر تستعد للاستحقاقات النيابية وسط تحديات وتوترات إقليمية كبيرة    تقرير: مانيان يرغب في إتمام انتقاله إلى تشيلسي    مدرب منتخب بولندا يكشف تفاصيل أزمة ليفاندوفسكي    تصفيات كأس العالم.. تشكيل كرواتيا والتشيك الرسمي في مواجهة الليلة    قرار قضائي بشأن واقعة مصرع طفلة غرقًا داخل ترعة مغطاة في المنيا    موعد أول إجازة رسمية بعد عيد الأضحى المبارك .. تعرف عليها    لتجنب تراكم المديونيات .. ادفع فاتورة الكهرباء أونلاين بدءا من غد 10 يونيو    البابا تواضروس يوجه نصائح طبية لطلاب الثانوية العامة لاجتياز الامتحانات    براتب 8000 جنيه.. العمل تعلن 90 وظيفة في مجال صناعة الأواني    دوناروما يقود منتخب إيطاليا ضد مولدوفا في تصفيات كأس العالم    «سموتريتش» يهاجم محاولة المعارضة «حل الكنيست» والإطاحة بحكومة نتنياهو    أمين عام الناتو: سنبني تحالفًا أقوى وأكثر عدالة وفتكًا لمواجهة التهديدات المتصاعدة    إصابة 5 أشخاص إثر انقلاب سيارة ميني باص على صحراوي قنا    استعراضات فرقة الطفل تخطف الأنظار على المسرح الروماني بدمياط الجديدة    الزراعة: ذبح 450 أضحية لمؤسسات المجتمع المدني في غرب النوبارية    روشتة طبية من القومي للبحوث لمريض السكري في رحلة الحج    بأنشطة في الأسمرات والخيالة.. قصور الثقافة تواصل برنامج فرحة العيد في المناطق الجديدة الآمنة    «سرايا القدس» تعلن الاستيلاء على مسيّرة للاحتلال في شمال غزة    إصابة 20 شخصا بحالة تسمم نتيجة تناول وجبة بأحد أفراح الدقهلية    «التعاون الخليجي» يبحث مع «منظمة الدول الأمريكية» تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري    هل تنتهي مناسك الحج في آخر أيام عيد الأضحى؟    الصحة: فحص 3 ملايين و251 ألف سيدة ضمن المبادرة الرئاسية ل «العناية بصحة الأم والجنين»    هل الموز على الريق يرفع السكري؟    وكيل الشباب والرياضة بالقليوبية يشهد احتفالات مبادرة «العيد أحلى»    آخر موعد لتقديم الأضحية.. وسبب تسمية أيام التشريق    من الشهر المقبل.. تفاصيل زيادة الأجور للموطفين في الحكومة    موعد إجازة رأس السنة الهجرية.. تعرف على خريطة الإجازات حتى نهاية 2025    ما حكم صيام الإثنين والخميس إذا وافقا أحد أيام التشريق؟.. عالم أزهري يوضح    دار الإفتاء تنصح شخص يعاني من الكسل في العبادة    ارتفاع كميات القمح الموردة لصوامع وشون الشرقية    الأربعاء.. عرض "رفرفة" ضمن التجارب النوعية على مسرح قصر ثقافة الأنفوشي    التحالف الوطنى بالقليوبية يوزع أكثر من 2000 طقم ملابس عيد على الأطفال والأسر    الجامعات المصرية تتألق رياضيا.. حصد 11 ميدالية ببطولة العالم للسباحة.. نتائج مميزة في الدورة العربية الثالثة للألعاب الشاطئية.. وانطلاق أول دوري للرياضات الإلكترونية    ترامب يتعثر على درج الطائرة الرئاسية.. وروبيو يتبع خطاه    د.عبد الراضي رضوان يكتب : ل نحيا بالوعي "13 " .. حقيقة الموت بين الفلسفة والروحانية الإسلامية    دعاء الخروج من مكة.. أفضل كلمات يقولها الحاج في وداع الكعبة    الصحة: فحص أكثر من 11 مليون مواطن بمبادرة الكشف المبكر عن السرطان    بعد صعود سعر الفراخ البيضاء.. أسعار الدواجن اليوم الاثنين 9-6-2025 صباحًا للمستهلك    أسعار الخضروات والفاكهة في سوق العبور اليوم    استعدادا لامتحان الثانوية 2025.. جدول الاختبار لطلبة النظام الجديد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اهلا يا انا
أحمد عكاشة.. حياة طبيب نفسى كبير ولامع ألف مفتاح لأبواب الحب والكراهية
نشر في الأهرام اليومي يوم 26 - 08 - 2016

الزمن نهر فياض تنبع منه حياة أى منا لتشق طريقها بمجاديف من الحب والكراهية . والزمن الذى جاء بعد ميلاد أحمد عكاشة ابن الضابط العظيم ينساب رقراقا بموسيقى تعزف فى فونجراف الأخ الكبير ثروت عكاشه ، هذا الفارس الذى تخرج من كلماته أوامر ممزوجة بالحب كارهة للجهل بكل ألوانه وأشكاله.
وهو من يطلب من والده الضابط العظيم أن يسند له الإشراف على تربية الابن الأصغر للأسرة أحمد ، هذا الذى شرب من الأب جدوى احترام الوقت ، ثم الانطلاق إلى اللعب ، ومداعبة أو مشاغبة سكان العقار الواقع بالعباسية فى شارع فاطمة النبوية، وهو البيت الفسيح حيث يسكن جد أحمد عن أمه فى الدور الأول وفى الدور الثانى الوالد محمود عكاشة مع اولاده كما يعيش ثروت عكاشة مع أسرته المكونة حديثا ، أما الطابق الثالث فتسكن عائلة الضابط رياض الذى يدير الكلية الحربية وله من الأبناء ثلاثة أرتبط أحمد معهم بصداقة ومودة ، فالكبير هو محمود رياض، وزير المواصلات الأسبق، والمتوسط هو عبد المنعم رياض الذى ترك الكلية التى يحلم بها أحمد عكاشة وهى كلية الطب ليدخل الكلية الحربية، أما الأخ الأصغر فهو د. أحمد رياض، أستاذ أمراض النساء.
وتظل كرات التنس التى تفقد ليونتها تحت مضرب محمود رياض هى الكنز الأثير لأحمد عكاشة، فمحمود رياض يداعب الجار الصغير أحمد ويرى فى ذكائه ما يحرص على أن يقول له «تحضر غداً الساعة 6.30 صباحا لأخذ كرات التنس» وان تأخر أحمد خمس دقائق يؤجل الاستلام حتى الانضباط فى الميعاد!!! . وكانت كرات التنس التى فقدت ليونتها تعطى الطفل أحمد امتيازا عند أصدقائه من سكان الحى .
................................................................ولم يكن أحمد عكاشة يعلم أن أصدقاء شقيقه ثروت سيكونون هم حكام مصر، جمال عبد الناصر وخالد محيى الدين وعبد الحكيم عامر ، هؤلاء الذين يجتمعون فى صالون الأسرة ويصغى الجميع لأى كلمة تخرج من فم أحدهم وهو جمال عبد الناصر ، هذا الذى يتميز بعيون لامعة ذات ضوء يخترق قلب من ينظر إليه ليقرأ خريطة أفكاره .
ولم يكن أحمد عكاشة يعلم أن عبد المنعم رياض هذا الجار الودود رغم جدية كل خطوة وكل كلمة تخرج من فمه ، لم يكن يعلم أنه سيلتقى به فى حديقة سفارة دولة عربية شاركت بعدد من طائراتها وعدد من المقاتلين الذين جاءوا إلى مصر ليعوضوها عن الخسائر التى ضاعت فى حرب يونيو.
وكان حضور عبد المنعم رياض لحفل الاستقبال وهو رئيس أركان القوات المسلحة هو نوع من التكريم لما قدمته تلك الدولة لمصر بعد عدوان يونيو 1967. صحيح أن مصر هى من غزلت رايات الحرية من المحيط إلى الخليج، والصحيح أيضا أن الوجع المصرى بهزيمة يونيو وصل إلى قلب كل من يحيا على أرض عربية.
ولاحظ أحمد عكاشة نوعا من بريق العيون بين عبد المنعم رياض وبين سيدة تقترب من الأربعين قدمتها حرم سفير تلك الدولة لأحمد عكاشة على أنها صديقتها الأثيرة ، ولم يتوقع أحمد عكاشة أن يقترب منه عبد المنعم رياض ليهمس فى أذنه «هذه السيدة هى من سأتزوجها فور انتهائنا من الحرب التى سننتصر فيها حتما. أقول لك ذلك لأنك فى مكانة أخى الأصغر وإن حدث لى شيء عليك برعايتها. ودعنى أقول لك إنى أخبرت جمال عبد الناصر بارتباطى بهذه السيدة حتى لا تزحم الأجهزة التابعة له وقته بحكايات عنى وعنها. وهو من أشار على بالزواج الفورى مادمت قد اخترتها شريكة لعمري، ولكنى لا أستطيع بناء حياة أسرية وتفكيرى كله هناك على الجبهة. وليس عندى وقت «لاجازة قصيرة».
وفى منتصف مارس 1969 بعد استشهاد الحبيب عبد المنعم رياض؛ كانت السيدة التى رقص الفرح فى عينيها لحظة اعتراف عبد المنعم رياض بحكاية ارتباطه العاطفى بها، هذه السيدة تدق باب عيادة أحمد عكاشه لعلها تجد معنى للموت السارق للفرح من حياتها، وهى التى ترفض الانتحار ولكن الحياة بدون الحبيب هى موت رغم التنفس والحركة . قالت :أتذكر كلماته «الحرب هى فن صيانة الحياة من أى قهر يمارسه محدود الذكاء على غيره». فهل كان تفريغ الهواء الذى سببته المدفعية الإسرائيلية على موقع وجود عبد المنعم رياض فى الثالثة والنصف من بعد ظهر التاسع من مارس 1969 هل كان تفريغ الهواء هو سارق الفرح من قلبها وأهداها هذا الحزن الذى طلبت من أحمد عكاشة أن يعالجها منه؟ ولأحمد عكاشة فلسفة فى التعامل مع من يطلبون مشورته ، فقد تعلم فى لندن أن الطبيب النفسى ليس مجرد إنسان يقف على كرسى عال وينظر إلى المريض الراكع على الأرض، بل الطبيب النفسى عليه أن يكون قد درس علوم أمراض الباطنة بتفوق ومعها دراسة الجهاز العصبى، ثم مدارس الطب النفسى المتعددة، وأول ما يفعله أحمد عكاشة هو سؤال من يطلب المعونة النفسية «كيف يمكن أن أساعدك ؟» يقول ذلك لعمق إيمانه بأن المريض هو المعالج الأول لنفسه فهو العارف لدهاليز أحزانه لكنه مفتقد الثقة فى كيفية مواجهة متاعبه التى تدهمه كطوفان لا يعرف السباحة فى دواماته. والطبيب النفسى هو الصديق المؤقت الذى يقسم على كتمان ما يقوله المريض من حقائق أو أوهام. ويحاول الطبيب أن يضبط إيقاع التذكار فى وجدان من يطلب الدعم النفسى، وأول الطريق هو التفريغ الانفعالى مع بعض من المهدئات ليقوم الزمن بدوراته كى يضع من نفترق عنهم فى دائرة التذكار.
ويعترف أحمد عكاشة أن افتقاده لعبد المنعم رياض كان قاسيا عليه بشكل شخصى، صحيح أنه عاش الانضباط العسكرى ببعض من صرامته لأن الأب ضابط والشقيق الأكبر ضابط أيضا، وصالون المنزل شهد العديد من لقاءات أصدقاء ثروت من الضباط ، ولكن الصحيح أيضا أن التوقيت للقاء أو الفراق هو حد سكين إما أن يجرح وإما أن يكشف عن عطر التذكار. والكلمة الأساسية التى قالتها السيدة التى كان عبد المنعم رياض سيرتبط بها هى «أهدانى عدة بلوفرات، وسأظل أرتديها إلى أن ألحق به».
ومن الغريب أنها وهى الثرية المقتدرة غادرت مصر ليلتقى بها أحمد عكاشة فى نيس بفرنسا وهى تعيش وحيدة ويجدها ترتدى البلوفر الذى كانت ترتديه فى حفل السفارة وكانت ترتديه أثناء لقائه بها فى حفل أوركسترالى فى نيس بفرنسا. وظل يتذكر ابتسامتها وهى تقول له «كل مساء أحكى له ماذا فعلت طوال النهار وأروى له كل مايمر بى ، ثم ألمس البلوفر الأثير لأنام دون مهدئات» .
.............................
يظل البلوفر هو ابتسامة فى ذاكرة أحمد عكاشة، فوالدته سنية هانم هى التى ضحكت وهى تدق باب حجرته الخاصة لتخبره بأنه ضمن المتفوقين الأوائل فى طب عين شمس وأن عميد الكلية و هو من عائلتها قد وقف حائرا أمام طلب أحمد عكاشة فى أن يكون تخصصه فى طب الأمراض النفسية «عايز يعالج المجانين ياسنية هانم». كان عميد الكلية يعلم أن طبيبا واحدا هو مصطفى زيور هو من تخصص فى هذا المجال ومازال يدرس ولم يخرج كما يقال باللغة العامية ب «عقاد نافع» فلم يحسم أحد أمر الشفاء من الجنون. أو عندما نقلت سنية هانم ما قاله قريبها عميد الكلية حتى قال لها أحمد « هناك باب لا نراه فى أعماق كل إنسان. والطب النفسى يحاول أن يجعل مفتاح هذا الباب فى يد الإنسان نفسه، وهذا ما سوف أدرسه فى أدنبره ولندن بإنجلترا».
وقامت الأم من مكانها لتخرج إبر نسج الصوف وتقول لأحمد سأنسج لك أكثر من بلوفر لأن جو إنجلترا سخيف وساقع وبرده ينفذ للعظام، هذا ما تقوله خطابات أختك ثريا».
والشقيقة ثريا التى تكبر أحمد بأربع سنوات هى زوجة أحمد أبو الفتح صاحب ورئيس تحرير جريدة المصرى المعبرة عن حزب الوفد ، وهو من اختلف مع عبد الناصر فور أن أصدر قرار حل الأحزاب السياسية وهو من خرج من مصر ليقيم خارجها مناوءا لحكم جمال عبد الناصر . وتختلط السخرية بالمرارة فى صدر سنية هانم فابنها الكبير واحد من رجال ثورة يوليو وزوج ابنتها مناوئ لجمال عبد الناصر الذى تأكدت زعامته للثورة ، وهى من ظن اللواء محمد نجيب الذى استخدمه ثوار يوليو كخطاب إنسانى يواجهون به العالم بعد قيام الثورة، ظن محمد نجيب أن سنية هانم عندما اتصلت به تنصحه بألا يعارض أعضاء مجلس قيادة الثورة وألا يقترب من الإخوان المسلمين الذين لا أمان لهم، هنا ظن محمد نجيب أن سنية هانم والدة ثروت عكاشة هى دسيسة عليه من قبل الثوار . ولذلك ما أن دخل أول إجتماع لمجلس قيادة الثورة, بعد مكالمتها التليفونية حتى طلب من عبد الناصر ألا يسلط عليه الناس، فيضحك عبد الناصر ليخبر محمد نجيب أن لسنية هانم والدة ثروت عكاشه مكانة الأخت الكبيرة عند أعضاء مجلس قيادة الثورة وعند الكثير من ضباط الصف الأول من ثوار يوليو هى بمثابة الاخت الكبيرة ، وروى عبد الناصر الكثير من اتصالاتها .
وكان يحفظ لها دائما هذا الوهج العاطفى حماسا لثورة يوليو ، وظل طوال حياته لا يرفض لها مكالمة ويسمعها حتى وزوج ابنتها أحمد أبو الفتح يدير حربا إعلامية ضده شخصيا بعد أن خرج من مصر إلى الخارج . وهى التى لم يمنع يوما سفرها لزيارة إبنتها المقيمة مع زوجها خارج مصر. كان عبد الناصر يشعر بإمتنان لها فهى شقيقة حكمدار القاهرة الذى أخبر الثوار بتحركات القصر الملكى ليلة الثالث والعشرين من يوليو ، ولم يفكر يوما فى أى حجر على رأيها ، لأنه كان يرى فيها ملامح أمه التى افتقدها صغيرا.
سنية هانم تقرر الرضوخ لقرار ابنها الأصغر أحمد الذى قرر أن يدرس أحوال النفس البشرية، فهى من آمنت أن لكل جيل دائرة من خيال وقدرات لا تعيها الأجيال السابقة ، أليس أولاد خالتها هما أحمد ماهر الذى إغتاله الإخوان المسلمون، وعلى ماهر الذى حاول أن يربى الملك فاروق على أن يكون جادا وغير لاه، وشاركه فى ذلك الرجل الذى كان يعتبره العسكريون المصريون أيا حكيما هو عزيز المصرى ، لكن فاروق كان ضحية فتحه لباب غرفة نوم والدته الملكة نازلى ليجدها فى وضع حميم مع أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكى وهو من تزوجته عرفيا خوفا عليه من المطربة أسمهان التى كانت تنافسها فى قلبه .
وصار على سنية هانم أن تقبل كلمات على ماهر عندما أعلن لها أنه يوافق ثوار يوليو على عزل الملك فاروق، لكنه لا يوافقهم على الإصلاح الزراعى، فكيف يمكن أن نجرد الأغنياء ما وروثوه من آبائهم؟ وكيف يمكن أن نجد «فلاحين» يعملون فى الزراعة إذا ما تحولوا إلى ملاك أرض، فهل تتساوى الرءوس؟
كانت سنية هانم تؤمن بمساواة الرءوس وهو ما علمته لأولادها، حتى لثريا التى غادرت مصر لتقيم خارجها. وهى من سهرت ليالى لتنجز أكثر من «بلوفر» ليسافر أحمد إلى بعثته وهو يرتدى بلوفر من صنع يديها مثل البلوفر الذى غزلته لثروت عندما سافر قبل عدوان إنجلترا على مصر ليكون ملحقا عسكريا فى باريس، وهو من سهر ليلة كاملة ليقوم بتحفيظ أحد العاملين معه لخطة العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 ليعود إلى القاهرة ويقوم ب «تسميعها» أمام عبد الناصر .
البلوفر عند سنية هانم وبالتأكيد فى خيال أحمد عكاشة هو رمز يقترب من رمز بينلوب التى مضت تغزل ثوبا وتقوم بتفكيكه ليلا حتى تهرب من وعدها بأنها سوف ترتبط بمن يطلب يدها فور إنتهائها من غزل الثوب، وأخيرا يعود أوليس من توهانه ليجد بينلوب فى إنتظاره كما تقول الأسطورة اليونانية.
وترتيب الرابع على دفعة التخرج جعله يحدد ماذا سوف يدرس فى بعثته، وكانت نظرات الأب تحكى قلقا حائرا « هل الحرية التى تركتها لأحمد هى التى جعلته يختار هذا التخصص الذى يوجع القلب؟ أليس للمتفوق أن يدرس أمراض النساء أو طب العيون، وهما التخصصان اللذان يسعى إليهما المتفوقون من أوائل الدفعات فى كليات الطب .. لماذا يختار هذا الابن دائرة العقول المتعبة ليعيدها إلى الصواب ؟ ثم ما هو الصواب فى هذه الحياة ؟ «أسئلة يكتمها الأب فى قلبه وهو يودع ابنه المسافر إلى لندن ثم إلى أدنبره ليدرس طب أمراض الباطنة أولا ثم ماجستير فى الجهاز العصبى ومن بعد ذلك يتخصص فى الطب النفسى . فإنجلترا لا تسلم عقول أبنائها لمن يلعبون على شاطئ المعرفة ، فهى تعتمد الرصانة كأساس لتسليم عقول وتجارب المتعبين ليعودوا من جديد إلى اقتحام الحياة فيضيفوا لها ولا يخصمون منها».
لم تكن فى إنجلترا «سراى صفراءٍ» يودع فيها من يعانى من خلل التعامل مع الواقع ، وإنفتح الباب الوهمى بين واقعه وخياله فإندلق من الخيال هلاوس لا قبل لأحد بوقف فيضانها.
يتذكر أحمد زيارته لمستشفى الأمراض العقلية بالعباسية وهو يشاهد بعضا من زملائه يسخرون من المرضى ويرفض هو تلك السخرية تماما كما وقف بعد أربعين عاما ضد محاولات السماسرة لنقل مستشفى الأمراض العقلية من العباسية حيث ستون فدانا يمكن أن تمثل مليارات من الجنيهات لمقاولى بيع كل ما فى هذا الوطن من تميز ، تماما كما عاتب د. أحمد واحدا من الأطباء الذى نقل أشجار مانجو سليمة من حديقة المستشفى إلى مزرعته الخاصة. وتماما كما وافق على إيقاف طبيب عن العمل لأنه احترف القسوة على المرضى .
وكثيرا ما كان يندهش د.أحمد عندما يرى أحدهم يسيء استقبال مريض متوتر أو حائر أو حتى غائب عن الوعى، فالبردية التى تركها المصرى القديم تحكى عن وحدة القلب مع العقل، وهناك وصف دقيق للاكتئاب حين نقلت ما روته زوجة عن زوجها، بأن مدت يدها تحت ملابسه لتقول: أنت لا تدرى بما حولك لا من الحمى ولكنه الحزن فى قلبك الذى أنساك أين أنت ؟».
وكان هذا نوع من تأكيد الحدس العلمى العميق عند المصرى القديم . لكن هذا الحدس أخطأ فى أحيان أخرى عندما فسر الهستريا التى تصيب المرأة بأنها الرطوبة قد نالت من الرحم فيزهد الزوج عن عناق الزوجة فتتوتر المرأة لتصاب بنوبات من صراخ أو آلام . وكان أطباء الفراعنة يوصون بدهانات غالية الثمن للأجزاء الحساسة بجسد المرأة لتهدئة المصابة بالهستريا . ويضحك د. أحمد وهو يحكى لى عن سيدة متعلمة جاءته تشكو من إهمال زوجها لمسئولياته العاطفية والجسدية فنصحتها جدتها العجوز بأن تدهن أعضاءها بعسل النحل . ضحك الدكتور أحمد كثيرا وهو يؤكد للزوجة التى تشكو من إهمال زوجها لها بأنه زوج مرهق من كثرة مطالب الأسرة وأنه يعانى من كثرة ما يضعه الواقع على أكتافه من مسئوليات وليس عندهما وقت للتلاقى العاطفى كمقدمة يمكن أن تسبق التلاقى الزوجى .
.............................
لا أحد فينا ينتبه إلى أن هناك عددا غير محسوب من الأقنعة تغطى جمجمة كل فرد . ونحن نقوم بتثبيت تلك الأقنعة دون أن ندرى بمسامير غير مرئية ؛ ومواد لاصقة لا يعرفها أحد غيرنا ، وكل ذلك من أجل أن نسمح لمن يقابلونا بأن يجدوا صورة إنسان يعرفونه ، ويعيشوا معه و يحدث أحيانا أن تتمرد تلك الأقنعة . وقد تبدأ فى التلطيش لبعضها البعض. وقد تمسك فى خناق بعضها البعض ، أو تفتعل المعارك مع من حولها. والسبب فى هذا «التلطيش» أو «تلك المعارك» هو الكرب. نعم فالحياة فى جوهرها رحلة إلى آمال كثيرة محاطة بكروب متعددة . وكلما اقترب واحد منا من أمل ما، وكلما انتصر على «كرب ما» فهو يشعر بالراحة وبالتقدم إلى الأمام. وقد تحاصر الكروب إنسانا ما، ويتوقف عن السير إلى تحقيق أحلامه وآماله ، ويعانى من أعراض افتقاد التوازن النفسى المطلوب ، ويحاول أن يبحث عن هذا التوازن، هنا يقال عمن يحدث له ذلك «فلان مريض نفسى». و يصبح على هذا الشخص أن يبحث عن علاج مما يعانيه من معارك تلك الأقنعة. و فى زماننا صار من السهل أن يدق الإنسان باب عيادة الطبيب النفسى ، ليلعب معه لعبة من الصداقة لبعض الوقت . وتختلف أساليب الصداقة من طبيب إلى آخر ، فهناك مدارس منوعة ومتعددة ، وكل منها يدعى أنه حقق ما لم تحققه المدارس الأخرى أو الأطباء الذين ينتمون إلى تيار آخر مضاد .
ولأن المرض النفسى لا يأتى إلى الإنسان نتيجة فيروس ما أو نتيجة تلوث ما ، لذلك فهناك ألف تفسير وتفسير لكل ظاهرة . ومنذ نصف قرن أو يزيد والطب النفسى كفرع من فروع الطب يحاول أن يقتحم أغوار الروح، ويحاول أن يرى كيف تتجسد تلك الروح فى مواد معينة . بل هناك من قرر أن يدرس بدقة كيمياء المخ البشرى مثل الأستاذ الدكتور أحمد عكاشة، وقرر أن يقوم نظريا بفرد قشرة التجاعيد الموجودة داخل أى مخ ، ونقل المسألة عمليا إلى دراسة خريطة المخ عبر جهاز رسم المخ وكذلك جهاز الرنين المغناطيسى ، والهدف هو دراسة كل مليمتر فى الألف و الأربعمائة جرام المكون منها مخ الرجل أو الألف وثلاثمائة جرام المكون منهم مخ المرأة . وغالبا ما يتوقف د. عكاشة عند شكل يشبه فرس البحر موجود تحت الجبهة مباشرة . ويبدو أن شكل فرس البحر هذا قد أعجب د. أحمد إلى حد كبير ، لأن ملامحه تتشابه مع لوحة معلقة على حائط حجرة مكتبه فى المنزل لدون كيشوت من رسم «سيلفادور دالي» أعظم فنان» ساق الهبالة على الشيطنة»، وعشق امرأة صديقه «أندريه بيرتون» فيلسوف العبث، وخطفها منه ليتزوجها، وكان اسمها «جالا» . وحين ماتت «جالا» قرر «دالي» أن يقوم بالبحث عن شبيهاتها ، وقضى شهورا حتى يبحث عن شبيهة ل«جالا» فى كل مرحلة من مراحل العمر ، وقام بتعيين الشبيهات كموديلات عنده ؛ وأصبح عليهن أن يرقصن أمامه فى حمام السباحة الخاص به فى مدينته الأسبانية .
حين كان د. أحمد عكاشة يحدثنى عن «سلفادور دالي» ، كنت أسأله عن شكل «فرس البحر» الموجود فى مخ هذا المجنون المبدع . وقال لى د. أحمد :«فرس البحر» فى كل مخ متشابه مع أى فرس بحر فى أى مخ، ويزاول التحكم فى العواطف وتساعده فى مهمته بقية أجزاء القشرة المجعدة الموجودة بجانب الجبهة مباشرة . كما أن فرس البحر يحاول السيطرة على الذاكرة ، وأن يقود المشاعر إلى درجة من الاستقرار المنتبه, كما أن هذا الفص له علاقة مباشرة بمزاج الانسان وقدرته على تحمل ضغوط الحياة.وكنت أضحك بينى وبين نفسى، وأنا أرى بعيون الخيال هذا الفرس الموجود فى كل مخ بشرى ، وهو يقوم بعمله مستعينا بالمهدئات والمطمئنات ومفرحات النفوس التى يفرزها جزء آخر من المخ .
وتلك حكاية أخرى..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.