قد يكون من الطبيعى اتهام دولة ما بانتهاك حقوق الإنسان، أو باتباع أساليب الدولة القمعية أو البوليسية.ومن الطبيعى أن تنشر وسائل الإعلام الأجنبية كافة التقارير والمعلومات المستقاة من أطراف مختلفة دولية أو محلية لإثبات أن هذه الدولة تمارس العنف والترهيب ضد خصومها السياسيين، حتى وإن كان هؤلاء الخصوم معظمهم إرهابيين يحملون السلاح. ولكن غير الطبيعى، وغير الموضوعى، وغير النزيه، هو أن تلجأ وسائل إعلام عالمية مرموقة يفترض أنها تحظى بسمعة عالمية مصداقية وأساس عملها النزاهة والموضوعية إلى عرض وجهة نظر واحدة، كأن يتم تقديم تقرير طويل عريض من آلاف الكلمات، ومصادره كلها تتحدث فى اتجاه واحد، دون أن تكلف الوسيلة الإعلامية «المرموقة» نفسها بعرض وجهة نظر الجانب الآخر، الذى هو فى هذه الحالة الموقف الرسمى المصرى. وهذا ما دأبت عليه وسائل إعلام أجنبية كبيرة طوال الفترة الماضية، فنشر تفاصيل من تقارير منظمات مثل العفو الدولية أو هيومان رايتس ووتش، أو معلومات من قيادات إخوانية أو سياسيين أو حزبيين أو محامين أو حقوقيين أو نشطاء يعبرون عن توجه واحد معاد للدولة المصرية، وبعضهم مؤيد للإرهاب أو متورط فيه، بإسهاب شديد، ودون عرض وجهة نظر الدولة المصرية على هذه الادعاءات، أو ربما قصر هذا العرض على كلمات أو سطور قليلة، هو أمر لا يعرفه العمل الإعلامى النزيه، ولا تعرفه الصحافة الموضوعية. وبطبيعة الحال، كانت قضية الباحث الإيطالى القتيل جوليو ريجينى من أبرز القضايا التى عملت فيها وسائل الإعلام الأجنبية «باجتهاد» من أجل تشويه صورة الدولة المصرية وترسيخ فكرة أنها «دولة قمعية» تعتقل الناس فى الشارع وتمارس ضدهم أبشع أنواع التعذيب والتنكيل، ومن ذلك ما نشرته وكالة «رويترز» يوم4 أغسطس الحالى من تفاصيل جديدة عن الجريمة الغامضة، ونقلت كل مصادر معلوماتها عن «ثلاثة مصادر أمنية مصرية»، أحدها قال إن ريجينى أثار ريبة الأمن المصرى لاجتماعه مع أعضاء النقابات العمالية، والثانى قال إن ريجينى «أجنبى»، و«لا يعمل فى وسائل الإعلام» وهو ما دفع الأمن الوطنى لمتابعته ومراقبته، والثالث قال إن «اجتماعات ريجينى أثارت الشكوك لأنها تم عقدها فى وقت كان عدد كبير من الدول فيه يتدخل فيما يحدث فى مصر، وهو ما أثار احتمال أن يكون ريجينى يجمع المعلومات من أجل دولة أجنبية. وعلى المنوال نفسه، نشرت وكالة «أسوشييتدبرس» للأنباء تقريرا يوم 5 أغسطس الحالى، أى بعد يوم فقط من تقرير رويترز، تتناول فيه تقرير منظمة العفو الدولية عن موضوع حبس معتقل مصرى انفراديا وتعذيبه بسبب مزاعم انتمائه لجماعة الإخوان، دون أن تبالى الوكالة بنشر رد كاف من السلطات المصرية على هذا الكلام المرسل الذى تستند فيه المنظمة كالمعتاد إلى مصادر من قيادات جماعة الإخوان، أى أن النزاهة والموضوعية هنا غائبان تماما! ووصل الأمر لدرجة الجدال حول مقتل أحد قيادات الإرهاب فى شمال سيناء، وهو ما قامت به شبكة «سى.إن.إن.» يوم 5 أغسطس أيضا تحت عنوان «مصر تعلن مقتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية فى سيناء»، فى إشارة إلى تنظيم داعش، الذى يصر الإعلام الغربى على أنه موجود فى سيناء، حيث تضمن التقرير عبارة غريبة تقول إن «مصر لم تفسر كيف تأكد من مقتل الأنصارى»! وخلال شهر يوليو الماضى، كانت الحملة على أشدها على موضوع «الاختفاء القسرى» فى مصر، استنادا إلى تقرير مماثل من منظمة العفو الدولية حول هذا الموضوع بالذات تضمن اتهام السلطات المصرية صراحة بمسئوليتها عن اختفاء ريجينى، وهو التقرير الذى استند بدوره كالمعتاد إلى ما سماه تقارير منظمات غير حكومية وجماعات يحقوقية، والمثير أن تقرير «العفو الدولية» حاول تحويل المنظمة إلى جهة تحقيق جنائى، بتأكيده – نقلا عن مصادر مجهولة - على أن آثار التعذيب الموجودة على جثمان الطالب الإيطالى هى نفسها التى تم العثور عليها على ضحايا التعذيب فى السجون المصرية، ولوحظ هنا أن رد وزارة الداخلية المصرية على اتهامات «العفو الدولية» لم يأت إلا فى كلمات قليلة فى كافة التقارير التى بثتها «رويترز» و»بى.بى.سى» و«أسوشييتدبرس» و«سى.إن.إن» عن هذا الموضوع، والهدف الوصول إلى رسالة معينة عبر طرق غير مهنية وغير موضوعية. ولتأكيد توصيل هذه الرسالة إلى المجتمع الدولى، امتدت الحملة لتصيد أى خطأ صغير من جانب الشرطة ضد مواطنين عاديين، ومن بين ذلك خبر نشرته وكالة «رويترز» عن سجن رجال شرطة ضربوا والد أربعة أطفال حتى الموت»، حيث استغلته الوكالة فى الحديث عن جرائم الأمن المصرى ضد المواطنين على نطاق واسع، وتحدثت أيضا عن «وجود ثقافة حصانة حيث نادرا ما تتم محاسبة الشرطة على الاتهامات بالتعذيب»، على الرغم من أن الخبر الأصلى كان يتحدث عن محاسبة فعلية وحقيقية لضابط شرطة أخطأ! لقد تحولت مهمة الإعلام الأجنبى فى تناوله لقضية الحريات فى مصر من تقديم تقارير محايدة تتضمن الرأى والرأى الآخر، وتناول الموضوعات بنزاهة وموضوعية، إلى تقارير تسير كلها فى اتجاه واحد يتم التركيز عليه، مهما بلغت تواضع مصداقية مصادره، وأحيانا «مجهولية» هذه المصادر، والأسوأ من ذلك عدم إبداء أى اهتمام بعرض رأى الجانب الآخر، الأكثر دقة ورسمية ومصداقية، لغرض فى نفس يعقوب! وواضح أن هذا الأسلوب لم يتغير حتى يومنا هذا، ولتذهب مصداقية الإعلام إلى الجحيم!