كانت مفاجأة لي أن تصدر مجلة الهلال, وقد خصصت عددا كاملا عن عباس العقاد بمناسبة مرور مائة عام تقريبا علي ميلاده, قلت في نفسي: يا إلهي هل هناك من يزال يذكر عملاق الأدب العربي لقد نسيه الجميع.. حتي أبناء جلدته في أسوان التي كان يفخر بها ويتغني في انشوداته وكتبه ومقالاته بمدينة المتناقضات هكذا كان يسميها.. ففي الصيف ترتدي الحلة السوداء كنساء أسوان, وفي الشتاء ترتدي الملابس الإفرنجية وتمتلئ عن آخرها بالسياح الذين يأتون إليها من كل فج عميق! لقد حشد عادل عبدالصمد رئيس تحرير الهلال كتيبة من محبي العقاد ودارسيه أمثال وديع فلسطيني والدكتور أحمد السيد عوضين والدكتور وليد عبدالناصر, ود. السيد فضل وآخرين ليكتبوا عن العقاد في ذكراه التي لن تموت.. صحيح أنك لو ذهبت إلي أسوان مسقط رأس العقاد وبحثت عن كتبه وبيته ومقبرته فلن تجد إلا النذر اليسير من كل هذا, ولمقبرته حكايات يرويها أحد سكان أسوان, فيقول: لو بحثت عن مقبرة العقاد ودخلتها فستجد عجبا, مقبرة شيخه وليست مقبرته! ويقال إنه قد دفنوه بجوار شيخه وأستاذه الذي سبقه في الوفاة! أريد أن أقول إن أرض أسوان قد ضاقت بأبر أبنائها وهو العقاد الذي لولاه ربما لما عرفت أسوان بالقدر الذي تعرف به الآن؟! فكلما ذكرت ذكر العقاد وبالعكس إذا ذكر العقاد ذكرت أسوان أرض الحضارات! إذا بحثت عن تمثال العقاد الذي كان مجاورا لمبني الإذاعة والتليفزيون ربما لم تجده بعد أن اقتلعه زبانية وزير الثقافة الأسبق (فاروق حسني) الذي جعل أسوان فضاء لكل التماثيل إلا تمثال ابنها المبدع عباس العقاد! والآن وياللعجب لقد ضاعت كل التماثيل التي غرسها هؤلاء في جميع الأرجاء, ونسيها الناس.. إلا حكاية تمثال عباس العقاد مازالوا يذكرونه, ويذكرون أن أحد المحافظين رفض أن يقيم ضريحا لعباس العقاد, وقال لابن شقيقه عامر العقاد إنه لن ينفق أموال المحافظة علي الأموات! لكن لو أننا كنا قد تحررنا من عسكرة منصب المحافظين وجئنا بانسان مثقف يعرف للثقافة والمثقفين أقدارهم ربما لعرف أن العقاد لم يمت (ولا يحسب من الأموات علي حد قوله) لأن كتبه ومؤلفاته لاتزال تخلده لعشرات السنين بعد غياب جسده الطاهر! أيا كان الأمر لقد سجل عادل عبدالصمد حكاية إبداع العقاد معتبرا إياها وثيقة ثقافية من حق الأجيال القادمة أن تعرفها.. فهذا الرجل علي رغم أنه لم يحصل إلا علي الابتدائية إلا أنه وصل إلي أعلي عليين بجده واجتهاده.. فلقد اعتمد علي نفسه في استظهار ومعرفة اللغة الانجليزية والألمانية والفرنسية كأهلها, وكان يقرأ الكتب التي تأتي إليه من الغرب وهي لاتزال تخرج من المطابع (سلخا), ثم يكتب عنها, أما كبرياؤه فلم يكن له حد فيقال إنه كان يرفض أن يحضر احتفاليات مع الدكتور طه حسين لأنه كان يقدم عليه لأنه كان (دكتورا) كما كان وزيرا, عندما دعته جامعة القاهرة إلي أن يلقي محاضرة لكليتها وافق بشرط ألا يحدثه أحد في نص المحاضرة إلا بعد أن يذهب إلي هناك.. ويتحدث إليهم من الذاكرة التي وسعت كل شيء! ويقال إن نواة كتابه من بين ال106 كتب التي ألفها عن الإمام أبي حامد الغزالي كانت هذه المحاضرة! الغريب أن هذا الرجل العقاد كان معروفا في بلاد الغرب وإن يكن بشكل غير صحيح لكن الباحثين الغربيين كانوا يرون أن عباس العقاد كان صنوا لطه حسين.. لكنه كان ذا ثقافة انجلوساكسونية بينما طه حسين ذو ثقافة لاتينية! وشتان بين الثقافتين كما أن لانسو كلوبيديا الفرنسية كانت تعرف العقاد بأنه روائي مصري كتب قصة سارة معتمدا علي المنهج النفسي! وهذا صحيح, لكنه لم يكن روائيا وإنما كان كما يقول كاتبا للشرق بالحق الإلهي! أو كان كاتبا فحلا كما كان يقول عنه زعيم الأمة وقتئذ سعد زغلول, أما هو فقد كان يكره جميع المسميات التي يغدقها عليه البعض مثل مفكر وإسلامي وأديب وناقد ويفضل عليها جميعا وصفه بأنه صحفي.. وكفي! وفي الغرب يرون أنه مفكر لا يشق له غبار ويعتقدون أن مؤلفاته عن الإسلام, وفريضة التفكير, والله, والانسان في القرآن, وأقوال المستشرقين عن الإسلام.. أفضل ألف مرة من عبقرياته التي تحدث فيها عن ايجابيات القادة المسلمين والمسيحيين وهم يذكرون عباس العقاد لأنهم يعرفون كل شيء عن طه حسين, ويقولون عن الأخير إن بضاعتنا ردت إلينا ويعنون بذلك أن طه حسين ابن ثقافتهم! أما العقاد فكان يعبر عن الوسطية في الإسلام.. وكانوا يرون أنه امتداد للإمام محمد عبده الذي كان العقاد مفتونا به ووضع عنه كتابا بعنوان: الإمام محمد عبده: عبقري التربية والتعليم! إن أحدا يا قوم لا يذكر العقاد وإن كان يذكر بعض مؤلفاته.. وعندما وجدت في أسوان مركزا ثقافيا يحمل اسمه فرحت وظننت أني سأجد صيدا ثمينا, لكني عندما التقيت بمديرة البيت الثقافي وتدعي السيدة زينب مدني وسألتها عن مكتبة العقاد فلم أجد إلا عشرات من الكتب المهلهلة وبعضا من الملابس الرثة إلي جانب سريره الخاص ومكتبة متواضعة ومكتب مهشم! قلت لها ملتاعا: هل هذا كل ما بقي من العقاد؟ فهزت السيدة زينب مدني رأسها بالايجاب, وقالت: هذا كل ما أعطتني إياه أسرة العقاد؟! وعلي رغم أننا نعيش عصر الثورة ثورة25 يناير إلا أن العقاد مازال نسيا منسيا.. وبعد أن وعدني محافظ أسوان الحالي اللواء مصطفي السيد خيرا بالعقاد وتمثاله وضريحه إلا أنه لم يحرك ساكنا.. ربما لأنه لا يعرف قدر العقاد وربما لأنه انشغل بأشياء أخري.. لكن النتيجة واحدة وهي أن العقاد بات غريبا في بلده! وعلي أن أهمس في أذنه قائلا: أرجو ألا تري ما كان يراه زميله السابق من أنه ليس في حل من انفاق مال المحافظة علي الأموات, فالعقاد حي بكتبه وفكره ولن يموت! شكرا أخيرا لعادل عبدالصمد الذي نكأ كل هذه الجراح وليتنا نبدأ مع العقاد صفحة جديدة تبدأ بالتمثال الذي ضاع والضريح الذي نزل فيه ضيفا علي استاذه أو شيخه.. وعلي كل حال الإجابة عند اللواء مصطفي السيد. المزيد من مقالات د. سعيد اللاوندي