في لحظة عدم اليقين الراهنة تبدو مصر متراوحة بين خيارات إعادة عجلة التاريخ الي الوراء, أو الدفع بها الي الأمام, أو تركها علي قارعة الطريق!! لكن يقيني لا يتزعزع في أن الأمة المصرية قادرة علي الإنطلاق من الفرصة التاريخية الإستثنائية, التي أتاحتها ثورتها الفريدة في25 يناير, كي تصنع التاريخ مجددا, وذلك ببناء دولة المواطنة وتقديم مثالها الملهم لشعوب عالمها العربي والإسلامي, بل وللدنيا بأسرها!! وليس في قولي بتقديم المثال زعم بتفوق عرقي أو إدعاء بأمة ذات رسالة; وإنما أنطلق من إدراك قدر مصر; أول دولة في التاريخ, وقدرة الأمة المصرية; أعرق الأمم قاطبة. وهي حقائق يبدأ بها أول درس للتاريخ الإنساني, الذي يفتح كتابه فتجد مصر في المطلع! فالأمة المصرية التي بادرت بإبداع الحضارة وإكتشاف الضمير, بقيت طوال التاريخ حاضرة وفاعلة ومبادرة, وأفادت من كل حضارة عاصرتها. ومن هنا أري جدارة الأمة المصرية بمواجهة التحدي المصيري بعد ثورتهم الفريدة باستجابة ملهمة; ببناء مثال دولة جميع مواطنيها, التي تحترم وتحقق وتحمي جميع حقوقهم السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها, دون إقصاء أو إنتقاص. فبهذا, دون غيره, تعود عودا حميدا لدورها في صنع التاريخ. ولنتذكر, أولا, أنه من إيطاليا بالذات, التي كانت جسر إنتقال الإرث الحضاري والأخلاقي المصري لأوروبا, قال رئيس وزرائها عن ثورة25 يناير لقد صنع المصريون التاريخ كالعادة!! وليتذكر من نكلوا وغدروا بشباب الثورة المصرية النبيل والباسل ولم ينفكوا يشوهون صورته ما تمناه الرئيس الأمريكي قائلا: يجب أن نربي أبناءنا ليصبحوا كشباب مصر!! وليتذكر من أسفوا لنجاح الثورة المصرية ويودون لو تمكنوا من وأدها, ما أعلنه رئيس الوزراء البريطاني: علينا أن نفكر جديا في تدريس الثورة المصرية في المدارس!! وليتذكر من يودون طمس هوية الأمة المصرية ما أعلنه رئيس وزراء النرويج وبزهو: اليوم كلنا مصريين!! وأوضحه رئيس النمسا قائلا: إن شعب مصر أعظم شعوب الأرض!! ولنتذكر ثانيا, وقد نسينا أو جهلنا, أن مصر هبة المصريين, الذين قادوا إنتقال الإنسانية جمعاء الي عصر الحضارة. ويسجل' أرنولد توينبي', أهم مؤرخ بحث في مسألة الحضارات: إن المصريين الأوائل واجهوا مع شعوب أخري تحدي التحول الي عصر الجفاف. ومن الأقوام ومنهم من رحل الي الشمال أو الجنوب. ومنهم من لم ينتقل من مكانه ولم يغير من طرائق معيشية; فلقي الإبادة والزوال. ومنهم من رفض ترك المواطن واستبدل طريقة معيشته; وتحول من صيادين إلي رعاة رحل. وأخيرا منهم أقوام استجابوا لتحدي الجفاف بتغيير موطنهم وتغيير طرائق معيشتهم معا; فكان هذا الفعل المزدوج للقلة' الخالقة', الذي قل أن نجد له مثيلا, هو العمل الإرادي الذي خلق مصر كما عرفها التاريخ!! فقد هبط الرواد المصريون الجبابرة إلي وادي النيل, وأخضعوا طيشه لإرادتهم, وحولوا مستنقعاته إلي حقول تجري فيها القنوات والجسور; وبدأ المجتمع المصري قصة مغامراته الخالدة!! ولنتذكر ثالثا, ما سجله جيمس هنري بريستد, أستاذ دراسات الشرق الأدني وعالم المصريات في كتابه الرائد' فجر الضمير', يقول: إن المصريين كانوا أقدم مجتمع علي الأرض استطاع أن يضمن لنفسه غذاء ثابتا من نبات وحيوان, وطوع المعادن, واخترع أقدم نظام للكتابة, فامتلكوا كل الأسس اللازمة لصنع الحضارة. وقد إندمج المصريون في أول' أمة موحدة' تحت حكومة مركزية قوية, تعد أقدم نظام إنساني معروف يضم عدة ملايين من البشر, وفي عروة وثقي لم تنفصم. وبدأوا تطويرا هائلا في نظام الحكم والاقتصاد والاجتماع والدين والعمارة والفن والأدب, في مرحلة فريدة من حياة الإنسان, لم يكن لها مثيل في العالم القديم. والذي يعرف قصة تحول صيادي ما قبل التاريخ من المصريين إلي ملوك ورجال سياسة وعمارة ومهندسين وزراع وصناع وحكماء في جماعة منظمة عظيمة, مشيدين العجائب علي ضفاف نيل مصر.. يعرف قصة أول ظهور للحضارة وأول بزوغ للضمير علي وجه الأرض. ولنتذكر رابعا, أن ما نسميه بحضارة الغرب ما هي إلا غرس يدنا وامتداد لحضارة أجدادنا, التي انتقلت إلي الإغريق ثم الرومان. وكما أوجز حسين مؤنس في مؤلفه المبدع' مصر ورسالتها', فقد حافظت مصر علي تراث حضارتها الفرعونية آلاف السنين, ثم حافظت علي تراث الحضارة الإغريقية, فتألقت أضواؤها في الإسكندرية حين كانت تخبو في أثينا وأسبرطة. وحتي فيما بدا عصر هبوط تحت الإستعمار الروماني, نهضت الكنيسة المرقصية في الإسكندرية تنافح عن العقيدة القويمة, وابتكرت الرهبانية الديرية, وظهر فيها أحبار بهروا الدنيا بعلمهم وصلابتهم في الحق, وأنجبت مفكرين يذكرهم الغرب بالإجلال ويعدهم من بناة حضارته, وظلت مصر محتفظة بعبقرية البناء والإنشاء والفن, حتي غدت مركز الحضارة المتوسطية. وتابعت مصر رسالتها الحضارية في ظلال الإسلام, إذ كانت بلدا مستقرا غنيا يمد دولة الخلافة بأسباب الغني والقوة والفتح, حتي أضحت القطر الإسلامي الوحيد القائم علي قدميه. وحين ركدت العقول في عالم الإسلام جمعت الفسطاط علم الدنيا كله, وإزدهرت مصر حين استقل بها حكامها أو صارت مركزا لامبراطوريات, لكن الذين أتوا من الخارج لم يصنعوا تاريخ مصر, بل مصر هي التي صنعتهم وصنعت تاريخها; وقبل المماليك كان جند مصر هم من حطموا قوات الصليبيين في حطين, وكسروا ظهر المغول في عين جالوت. ثم كان الانكسار الخطير حين غلب علي المصريين شعور بأنهم مجرد رعايا لدولة الخلافة, واستعان السلطان بالمملوك علي إذلال الأمة, فاغتصب الأخير الحكم, ولم يكترث المصريون, فكلاهما غاصب ظالم!! ولنتذكر أخيرا, أنه لم يكن لأحد أن يتخيل أن تقوم لمصر والمصريين قائمة بعد ان وصل حالهما الي درك أسفل لم يعرفاه قط عشية العصر الحديث! فكانت نهضة مصر الجبارة في عهد محمد علي, حين أدخلت نظام الري الدائم واستصلحت البراري وضاعفت الأرض المزروعة والسكان ودخلت عصر التصنيع, بل كاد جيش فلاحيها المظفر يقيم الوحدة العربية! ثم يبدو وكأنه لن تقوم لمصر والمصريين قائمة بعد ضرب وحصار مشروع محمد علي, فاذا بها تضاعف صادرات القطن وتفتتح قناة السويس وتؤسس أول برلمان وتفتتح مدارس البنات وتبعث الاسكندرية المحتضرة وتبني القاهرةالجديدة وتنشيء دار الأوبرا.. إلخ. وبعد الاحتلال البريطاني وسحق الثورة العرابية, لم يكن أحد ليتصور أن ستقوم قائمة لمصر والمصريين!! ولكن وقد استردت الأمة وعيها بهويتها المصرية, اذا بها تفجر ثورة1919 رافعة الهلال مع الصليب, وتنتزع استقلالها ودستورها وتصنيعها رغم النواقص! ثم لم يكن ليتصور أحد أن تقوم لمصر والمصريين قائمة بعد عدوان1967, الذي استهدف وأد إنجازات ثورة يوليو ومشروعها للتصنيع وكسر إرادة المصريين للتحرر وتطلعهم للعدالة الإجتماعية! فاذا بهم يهزمون الهزيمة, ويحررون سيناء بعبورهم العظيم قبل أي شيء!! وأخيرا, لم يكن ليتصور أحد أن تقوم لمصر والمصريين قائمة عشية ثورة25 يناير الديمقراطية الفريدة, فاذا بهم يزعزعون نظام الطغيان ويطيحون برؤوسه وبمهانة التوريث; لكنهم لن يكونوا جديرين بمصرهم بغير إكمال ثورتهم بتقديم مثال دولة المواطنة للدنيا بأسرها. وللحديث بقية. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم