في ذكري نصر أكتوبر.. تحية الي شهداء مصر, الذين دفعوا أرواحهم من أجل تحرير التراب الوطني المحتل, فحولوا- مع غيرهم من مقاتلي القوات المسلحة المصرية البواسل- انكسار يونيو1967 الي انتصار أكتوبر.1973 تحية نتذكر معها أن شهداء أكتوبر قد انضموا الي صفوف تقدمت بالروح والدم طوال آلاف السنين, من أجل: تحقيق وحماية وحدة وطننا العظيم مصر, وتكوين وحماية وحدة الأمة المصرية, وحماية استقلال مصر ومقاومة ودحر غزاتها, واستعادة وتعزيز وحدة الدولة حين اعترتها عوامل التفكك بعد ثورة أو غزو, وحماية وتحقيق العدالة الاجتماعية. والتحية في ذكري أكتوبر واجبة لمن استشهدوا من أجل حماية استقلال مصر, فحظيت بالاستقلال نحو70% من تاريخها, وهو ما لم تحققه أمة علي وجه الأرض. وحتي حين تمكن غزاتها منها, قاتلهم شعب وجند مصر, فلم يجعلوا غزوهم نزهة مجانية أو مريحة, بل وأقاموا سلطتهم الوطنية علي أجزاء من تراب الوطن, حتي قيض لهم تحريره كاملا, بل وأقاموا امبراطوريات كانت بالأساس خطوط دفاع أمامية. ولنتذكر أن صفوف شهداء معارك المصريين من أجل التحرير الوطني, قد تكاملت مع صفوف شهداء دفعوا أرواحهم من أجل العدالة الاجتماعية, لهم التحية الواجبة, بدءا من شهداء أول ثورة اجتماعية في التاريخ; رافعة شعار ماعت العدل والحق والصدق في مصر القديمة, ومرورا بشهداء ثورات المصريين ضد الظلم والنهب والقهر والطغيان في عصور مصر الوسيطة والحديثة, وحتي شهداء ثورة25 يناير الشعبية المستمرة; رافعة شعارات العدل والحرية والكرامة والمواطنة. ولنبدأ قصة شهداء مصر من فجر التاريخ, حين ولدت مصر; أمة ودولة, مولودا بالغا, كما سجل علماء المصريات, الذين بهرتهم منذ ميلادها. فالتحية الأولي مستحقة لمن استشهدوا في سبيل بناء الدولة المصرية الموحدة في حدودها الثابتة من فجر التاريخ, من رفح الي حلفا, وحافظوا علي وحدتها, فلم تعرف القسمة لا طولا ولا عرضا!! وحتي حين تفككت الدولة المركزية وأحتلت بقي هدف من مزقوها أو احتلوها هو حكم مصر الموحدة, وليس تحويلها الي أمصار!! والتحية الثانية واجبة لمن استشهدوا من أجل تكوين الأمة المصرية الواحدة, وحموها من مؤامرات التفكيك, فبقيت نسيجا متلاحما, قدم نموذجا للإنسانية جمعاء في كيف يكون التعايش رغم تعدد المعتقدات, تحت شعارهم الخالد: الدين لله والوطن للجميع; منذ النشأة والتكوين وحتي الآن, رغم خطاب التحريض الديني من ثورة إخناتون حتي الفتنة المعاصرة. وقد قدم شهداء مصر أرواحهم فداء لتوحيد الأمة وتأسيس الدولة, فصنعوا الحضارة ورسخوا الضمير. ونعرف من جيمس هنري بريستيد عالم المصريات الأمريكي في كتابه الفريد فجر الضمير.. أن الجماعات المحلية, التي كانت تتألف منها البلاد, قد توحدت تدريجيا, حتي أصبحت أول مجتمع عظيم مؤلف من عدة ملايين يحكمهم ملك واحد, فقامت أول دولة متحضرة كبيرة, في وقت كانت فيه أوروبا ومعظم غربي آسيا لا تزال مسكونة بجماعات مشتتة من صيادي العصر الجليدي!! والأرجح أن أول اندماج تألفت به أمة واحدة حدث في وقت لا يتجاوز سنة4000 ق.م. وبقيت البلاد متحدة مدة بضعة قرون في الاتحاد الأول, وكان من نتيجته تأسيس حكومة مركزية قوية تعد أقدم نظام إنساني معروف يضم عدة ملايين من الأنفس. ولما تألف الاتحاد الثاني فيما بعد بدأ تطور قومي, أخذ شكلا هائلا في نظام الحكم ونواحي الاقتصاد والاجتماع والدين والعمارة والفن والأدب, في مرحلة فريدة من حياة الإنسان علي الأرض.. فريدة لأنه لم يكن في هذا العصر البعيد نمو مطرد متعاقب في أي بقعة أخري من العالم. أشرق في مصر لأول مرة علي كرتنا الأرضية أول برهان علي أن الإنسان أمكنه الخروج من الوحشية إلي المثل الاجتماعي الأعلي, دون أن يكون للمصريين أجداد متحضرون يرثون منهم أي ثقافة, وفي وقت كانت فيه أوروبا لا تزال تعيش في همجية العصر الحجري!! ونعرف من سليم حسن في موسوعة مصر القديمة أن وحدة مصر, أمة ودولة, كانت مدفوعة الثمن بدماء شهدائنا البواسل من الآباء المؤسسين لمصر. فيذكر عالم المصريات الوطني أن الآثار تدل علي قيام حروب مستمرة بين سكان مصر, وبخاصة بين الوجه القبلي والوجه البحري, في زمن ما قبل الأسرات, حيث نري علي اللوحات الأثرية ملوك الجنوب وهم يهدمون مدن الدلتا, ونري الملك نارمر, الذي يختلط اسمه باسم الملك مينا, في لوحته الشهيرة, مرتديا تاج الوجه القبلي, يضرب العصاة والخوارج من سكان مدن الدلتا, وكان النصر حاسما بلا شك; حيث نري الملك يحمل تاجي الوجه القبلي والوجه البحري, الأحمر والأبيض. وقد تحققت وحدة مصر النهائية نحو عام3200 ق. م, تحت سلطان عظيم من عظماء أهالي طينة, بالقرب من العرابة المدفونة مركز البلينا, وهو الملك مينا. وبعد ميلادها, بقيت مصر محروسة ومستقلة بفضل بطولات وتضحيات جندها البواسل. ويسجل سليم حسن أنه حفاظا علي استقلال مصر, وتحت قيادة الملك مينا وخلفائه, قام جيش مصر بصد غارات الليبيين سكان غرب مصر الزاحفين علي الدلتا, حتي خضعوا بعد أن هزموا هزيمة منكرة. وحارب في شبه جزيرة سينا لصد غارات الآسيويين, وترك لنا الملك نوسر رع من الأسرة الخامسة لوحة في وادي مغارة يظهر فيها ممثلا وهو يضرب الآسيويين, وقد نقش عليها ما يأتي: قاهر الآسيويين من كل الأقطار!! ولم يكتمل توحيد واستقرار مصر إلا بعد أن امتدت سيطرة الدولة المركزية لتشمل النوبة حتي حلفا, واستمر ملوك مصر يراقبون عن كثب حركات الأقوام والقبائل ويتصدون لغاراتهم, التي كانت تهدد مصر من أطرافها, من حين لآخر. ويبين سليم حسن أنه ليس لدينا من الآثار ما يدل علي وجود جيش وطني عند توحيد مصر, وإنما كان يتم التجنيد من مقاطعات مصر; وكان يقود جند كل مقاطعة حاكمها لمساعدة الملك وقت الحرب. ولما تولي زوسر حكم البلاد, بدأ يكون لمصر جيش ثابت منظم, نهض بمهمة كبح جماح أي عصيان أو ثورة داخلية تهدد وحدة الدولة, حتي قضت الأسرة الثالثة علي كل مقاومة محلية للدولة المركزية الموحدة. ولكن بقي أهم ما عني به ملوك مصر هو حمايتها من غارات الأجانب, حيث قسمت الحدود المعرضة لخطر الغزو إلي مناطق أطلق عليه اسم أبواب المملكة, وجعل في كل منها حامية وحصونا. وقد قص علينا وني, أثناء حملات الردع التي قادها في نهاية الأسرة السادسة, أي في وقت تدهور الدولة المصرية وتمزيق شملها; أن تموين الجيش كان علي أحسن ما يرام, حتي أنه لم يوجد جندي قد أخذ اغتصابا خبزا أو نعلا ممن كانوا في طريقة!! ورغم تداعي الدولة المركزية القديمة فقد أظهر جيش مصر هيبتها الحربية, وحمي سيادتها, علي الشرق حتي فلسطين والجنوب حتي السودان. وللحديث بقية. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم