الشاعر الكبير مأمون الشناوى أحد الأعمدة الشعرية الهامة فى بناء صرح الأغنية المصرية هو وزملاء جيله الشعراء الكبار وأساطين الموسيقى ونجوم الغناء أسسوا معاً أكبر نهضة موسيقية غنائية وصلت أصداؤها إلى كافة أرجاء الوطن العربى وأصبحت القاهرة منارة الفن الغنائى التى يتطلع إليها الجميع وجواز مرور أى مطرب أو مطربة عربية للوصول إلى الشهرة من خلال حفلاتها التى تقدمها الإذاعة المصرية العريقة فى برنامجها الشهير أضواء المدينة الذى كان يقدمه الإذاعى الكبير الراحل جلال معوض، وشاءت الظروف أن يواكب مأمون الشناوى وزملاؤه ثورة 23يوليو1952 وزعيمها البطل جمال عبد الناصر ويسجلوا مبادئها الستة فى أغنيات وطنية خالدة كان مأمون أسرعهم فى كتابتها عندما كتب الأغنية الوطنية العظيمة «ثورتنا المصرية.. مبادئها الحرية.. وعدالة اجتماعية .. ونزاهة ووطنية»والتى غناها عبد الحليم حافظ مطرب ثورة 23يوليو، وعندما تجمع أكثر من 32مليون مواطن فى ميدان التحرير يهتفون بثورة 30يونيو كانت أغنية مأمون الشناوى هى التى تذاع لأنها تحمل نفس مبادئ الثورتين، واستطاعت أغانى مأمون أن تصل إلى قلوب وعقول معظم المطربين والمطربات العرب الذين كانوا يتطلعون إلى جواز مرورهم لعالم الشهرة وكنت شاهد عيان عندما جاءت الفنان عزيزة جلال ووالدتها لمقابلة مأمون الشناوى واتفقت معه على أغنية جديدة رشح لها الموسيقار محمد الموجى لتلحينها وكانت أغنية «هو الحب لعبة (بتخاصمنى حبة وتصالحنى حبة) وظلت عزيزة جلال مقيمة فى فندق النيل هيلتون إلى أن تم تسجيل الأغنية مع الفرقة الماسية وحققت نجاحاً كبيراً وأصبحت عزيزة جلال من كبار المطربات العرب اللاتى أضفن جديدا للأغنية العربية، ولكنها لم تستمر فى الغناء بعد ذلك لتفرغها للحياة الزوجية ، وتمر الأيام والشهور وتحتدم المنافسة بين الفنانة القديرة نجاة – مد الله فى عمرها - وبين الفنانة فايزة أحمد - رحمها الله – وتطلب فايزة من الكاتب الكبير أنيس منصور الذى تربطه بها علاقة طيبة أن يتدخل لدى الموسيقار عبد الوهاب ليقدم لها لحنا جديداً من ألحانة بعد أن حصلت نجاة على عدة ألحان منه وكان أنيس يرى أن فايزة أحمد الأصوات النسائية، وفى إحدى زياراته للموسيقار عبد الوهاب فى بيته بالزمالك قال أنيس لعبد الوهاب متى نسمع لحنا منك لصوت فايزة أحمد؟ فابتسم عبد الوهاب وكان يعتز بأنيس منصور ولا يرفض له طلباً وقال له: سأفعل ذلك عندما أجد الكلام الذى يناسبها فأبلغ أنيس فايزة بما حدث فقالت له: أنا أترك لعبد الوهاب حرية اختيار المؤلف الذى يراه، وبالفعل اختار عبد الوهاب الشاعر مأمون الشناوى واتصل به فى اليوم الثانى لمقابلة أنيس وقال له: أنا بارشحك لكتابة أغنية لفايزة أحمد تغنيها فى الموسم الجديد، فابتهج مأمون وكانت سعادته بالغة لأنه يعشق صوت فايزة أحمد أيضاً، وفى اليوم التالى اتصل بعبد الوهاب وقال له: يا موسيقار الأجيال أنا كتبت مذهب لفايزة أحمد إن شاء الله يعجبك، فرد عبد الوهاب: سمعنى يا مأمون، فقرأ له المذهب الذى يقول «بصراحة .. وبكل صراحة .. مالاقيتش فى حبك راحة.. ولا وانت بعيد باطمن .. ولا وأنا وياك مرتاحة»، فانشرح صدر عبد الوهاب وابتسم ضاحكا وقالً : هايل يا مأمون، فطلب منه قراءة المذهب مرتين ثم قرأ أول كوبليه فأعجبه أكثر فسجله على التليفون بنفس ما حدث معى – كاتب هذه السطور – فى أغنية «المركبة عدت» التى لحنها عبد الوهاب وغناها عبد الحليم بمناسبة عودة الملاحة فى قناة السويس عام 1975 والفرق أن عبد الوهاب سجل كلام المركبة عدت بالتليفون وبدأ البروفات والتسجيل دون أن يصله منى النص المكتوب وذلك لأهمية المناسبة، وبعد ذلك اتصل عبد الوهاب بمأمون ليطلب منه كتابة الأغنية كاملة، وفى الموعد المحدد قدم له مأمون النص الكامل للأغنية ليدخل صومعته واعتكف لمدة ثلاثة أسابيع وربما أكثر ولم يخرج من صومعته إلا بعد أن اكتمل اللحن ليستدعى بعد ذلك الفنانة فايزة أحمد ويبلغها بأنه لحن لها أغنية جديدة وكانت فرحة فايزة أحمد لا تقدر، والتقت بعبد الوهاب فى منزله وبعد لحظات الود المتبادل بينهما أمسك عبد الوهاب بالعود ليغنى مذهب الأغنية وتغنى معه فايزة نفس الكلام وبعد أن حفظت المذهب كاملاً واصل عبد الوهاب غناء الكوبلية الأول لتغنى معه أيضاً وامتدت السهرة إلى قرب منتصف الليل حيث كان عبد الوهاب لا يعشق السهر وطلب من فايزة الحضور بعد يومين لاستكمال حفظ الأغنية فغادرت منزل عبد الوهاب، وفى الموعد الحدد عادت إليه لاستكمال حفظ باقى الأغنية واندمجت فايزة أحمد فى الكوبلية الأول الذى يقول «من كتر عذابى فى حبك.. وشقاى وسهدى ليالى.. خليتنى أخاف وأنا جنبك.. يرجع تانى اللى جرى لى.. يا تكون على طول وياى.. يا تشوف لعذابى نهاية» ليتصل عبد الوهاب بعد ذلك بالموسيقار أحمد فؤاد حسن لكتابة النوتة الموسيقية للحن كاملاً وطبعا بغدد أفراد الفرقة الماسية لتبدأ البروفات بعد ذلك فى الأستوديو وتم تسجيل الأغنية على اسطوانات شركة صوت الفن وبحضور المستشار مجدى العمروسى الذى استلم شريط الأغنية وتحدد بعد ذلك موعد تقديم الحفل على الهواء وغنت فايزة أحمد وهى فى قمة أداءها الغنائى «حبك صبحنى دمعة.. مش عارفة امتى هتجرى.. حبك نسانى شمعة.. بتنور لك طول عمرى.. دبت محبة واخلاص.. وخلاص مش قادرة خلاص»ويطلب منها الجمهور إعادة الكوبلية مرة أخرى وتصل إلى قمة انفعالها مع روعة لحن عبد الوهاب خاصة فى المقطع الذى يقول: «إن كنت ساعات باشكى لك.. أو بس كلام من غلبى.. أبداً أبداً مش قصدى أعاتبك.. وبحب قساوة قلبك» ويسدل الستار ويغادر الجمهور الحفل لتتوالى بعد ذلك الاتصالات الهاتفية من كبار الكتاب والأدباء والمفكرين أصدقاء عبد الوهاب يهنئونه بهذا الانجاز اللحنى الرائع الذى أضاف به جديداً لمسيرة فايزة أحمد الغنائية ويتم طبع الأغنية على عشرات الآلاف من الاسطونات فى مصر والبلاد العربية ليقتنيها عشاق عبد الوهاب بفنه الأصيل الراقى باعتبار أنها من الأعمال الرائدة لموسيقار الأجيال.. وفى النهاية أقول لولا تدخل الكاتب الكبير أنيس منصور وعلاقته الطيبة والوثيقة بعبد الوهاب بشأن التلحين لفايزة أحمد لما خرجت بصراحة الى النور.. وهكذا كان يفعل كبار الكتاب والمفكرين من أجل إثراء الحياة بأعمال المبدعين الكبار فى زمن الفن الجميل.