فى الخمسينيات من القرن الخامس عشر كان فى إنجلترا مقهى واحد فقط فى أكسفورد, وبعد خمسين عاما كانت لندن ومعظم عواصم أوروبا مليئة بالمئات من المقاهي, بحلول عام 1750 كان كل موظف فى باريس لا يستطيع أن يبدأ يومه دون أن يمر أولا على مقهى لشرب كوبا من القهوة بالحليب مما أدى إلى إرتفاع مذهل فى معدلات إستهلاك البن, تلك المادة التى لم تكن أوروبا تعرفها من قبل قدومها من أثيوبيا عبر الجزيرة العربية, ثم من الإمبراطورية الإسلامية إلى ايطاليا, ثم فجأة تحولت إلى شراب يستخدمه جميع البشر, ليصبح ثانى أكثر المواد إستهلاكا حول العالم بعد النفط الخام, تلك قصة واحدة تروى لنا ببساطة صعود أنماط الإستهلاك البشرى على مدار القرون الخمسة الماضية. «إمبراطورية الأشياء» كتاب شديد الإثارة , يروى قصة حياتنا اليومية مع نهمنا المتزايد نحو الاستهلاك, الذى وصفه أفلاطون فى كتابه الجمهورية بأنه « نهم العيش الرغيد» , ويستعرض تاريخا طويلا من ميلنا البشرى نحو استهلاك الأشياء من حولنا, يشرح لنا ماذا وكيف ولماذا نستهلك, يغطى قارات وقرون وأيديولوجيات ونظم سياسية ومعتقدات, حتى نصل إلى عصرنا الحالى الذى تحول فيه الكائن البشرى إلى أقصى درجات استهلاكه عبر التاريخ, مع أنماط غير مسبوقة من الاستهلاك الفردي, والعشوائى الذى يشكل النظم السياسية والإقتصاد العالمى ويعيد توجيه وتشكيل البيئة على نحو لم يحدث من قبل. ..فى هذا الكتاب يتم وضعنا نحن جمهور المستهلكين الطبعيين تحت دائرة الضوء فى سياق تاريخى يمتد ل 600 عام من الإقتصاد العالمى . يروى لنا المؤرخ فرانك ترنتمان أستاذ التاريخ بجامعة لندن فى هذا الكتاب المميز كيف أننا نعتقد بشكل خاطيء أن بداية هذه الميول الاستهلاكية الشرهة مرتبطة على وجه الخصوص بالولاياتالمتحدة, أو تحديدا أمريكا فى زمن الإزدهار الإقتصادى فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية, ومع تضخم العولمة وتزايد سمات السطحية والعدمية لدى الشعوب. إلا أن واجب ترنتمان كمؤرخ أن يخبرنا أن هذا بجملته غير صحيح, فقد تصاعدت رغبات الإقتناء الشخصى فعليا على نحو نهم خلال فترة عصر النهضة فى إيطاليا, عندما بدأت الأسر الثرية تراكم أدوات الطعام الفضية, كدليل على الترحيب بالضيوف والتباهي, وعندما بدأت أسرة مينج فى الصين فى وقت متأخر من التباهى بإقتناء قطع فنية شديدة البهرجة, وفى هولندا القرن الخامس عشر مع زيادة الميل نحو إقتناء الكؤوس الكريستالية. يروى أيضا كيف أن الإستعمار البريطانى ,بجانب أشياء أخرى عديدة, حرر التجارة العالمية وأطلق العنان نحو رغبة شعوب بعيدة فى الحصول على المزيد من الأشياء. لقد قدم الإستعمار من بين سلبياته معايير وعادات وسلوكيات جديدة للشعوب التى تم إحتلالها غيرت من أنماط استهلاكها للأبد. يكتب ترنتمان أن رئيسة الوزارء البريطانية الأسطورية مارجريت تاتشر, أو «كاهنة الليبرالية الجديدة» كما يصفها كانت ,ترى أن الأموال التى تنفق على السلع المادية تعزز من قيم الديمقراطية عندما تحقق الرخاء للجميع, وفى مارس 1987 وهى تسعى لهدم مواقف الماركسية المتشددة ضد الاستهلاك الغربى, قامت بجولة فى موسكو السوفيتية وهى ترتدى قبعة باهظة الثمن من الفرو, وقتها إحتضنها الروس وكأنها مبعوث الحريات والثراء. ثم يبين كيف نظر رجال الدين وأصحاب الأيديولوجيات إلى نهم الاستهلاك فيروي، أن الكنيسة الكاثولكية الكلاسيكية حاربت شهوة الإقتناء والتبذير ودعت إلى زهد الفقراء, وإن لم تهتم كثيرا بتبذير أثرياء وملوك أوروبا, وناهض البابا يوحنا الثالث والعشرون باسم الكنيسة الكاثوليكية الاستهلاك الذى يؤدى إلى عدم المساواة بين البشر وإلى ثراء التجار عام 1963.وويشير ترنتمان إلى أن المسيحيين الإنجليين اليوم فى الولاياتالمتحدة يتبنون ما يسمى «بإنجيل الرخاء» الذى يدعو إلى أن الاستهلاك هو أحد قيم رخاء الفرد وبالتالى رضاه النفسى. ويشرح لنا كيف حارب كارل ماركس الميل نحو الاستهلاك وإعتبره إتجاها بشريا غير أخلاقى فى سبعينيات القرن التاسع عشر, ثم بعد قرن واحد فقط اشتعل العالم برغبة نهمة نحو استهلاك الكوكاكولا والجينز والعلكة وآلات القهوة السريعة والسلع المعمرة والسيارات الفارهة. فى إيران الخمينى لم تقض الحرب الأخلاقية على أنماط الاستهلاك الغربية لدى الإيرانيين, وأمام الرغبة العالمية فى استهلاك «الكوكا كولا» إستبدلتها فقط بعلامة تجارية مقلدة مثل «زمزم كولا» وغيرها، وفى بعض دول الخليج عندما تم منع إستيراد دمية باربى السافرة, تم إستبدالها بدمية أخرى ترتدى ثيابا أكثر حشمة تناسب المجتمع الاستهلاكى الإسلامى. ويمكن تصور أن الميل المتزايد نحو الاستهلاك هو نتيجة لتأثير أسواق الديمقراطيات الغربية, إلا أن ترنتمان يثبت أن جميع الأنظمة السياسية والإقتصادية هى أنظمة فصامية إعتمدت دوما على إزدياد الحاجة الملحة لدى الفرد نحو الاستهلاك, حتى الأنظمة الإشتراكية والستالينية والقومية, جميعها تعتمد على رغبتنا فى الإقتناء, وأنها فى النهاية حلقة تصب فى مصلحة الحكومات. لقد ساهم الإنفاق الحكومى أيضا فى الدول الغربية بشكل كبير فى تزايد معدلات الاستهلاك, وخاصة فى النصف الثانى من القرن العشرين, مع إرتفاع مستويات الخدمات الإجتماعية فى مجالات الإسكان والتعليم والصحة، وكذلك الدعم المقدم للفقراء والمسنين, كل هذا رفع من معدلات الاستهلاك. لقد دعمت المجتمعات الاستهلاكية الغربية هذا الميل نحو الاستهلاك فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين. يتناول ترنتمان أيضا كيف تمكنت الإقتصاديات الآسيوية من أن توجه النزعة الاستهلاكية لدى المواطن نحو مفهوم أطلق عليه «الاستهلاك الفاضل» بمعنى الحض على شراء السلع المحلية كواجب أخلاقى ووطنى, وهذا ما جعل من دول مثل اليابانوالصين قوى إقتصادية عظمى. يتناول الكتاب أيضا كيف أن المساواة فى الاستهلاك خلقت بشكل أو بآخر الطبقة الوسطي, ففى القرن السابع عشر ظهرت علاقة بين الاستهلاك والمساواة بين طبقات المجتمع فى حدها الأدنى, فعلى سبيل المثال عندما جلبت التجارة العالمية السلع الجديدة مثل البن والشاى والخزف الصينى والأقمشة الثمينة إلى متناول يد الطبقة البرجوازية الغربية, سمح هذا لهم بتحدى قوة الطبقة الأرستقراطية وخلقت لديهم نوعا من الذوق العام الذى سار بإتجاه المواطن البسيط, وهو ما حدث فى القرن العشرين، عندما ظهرت دور العرض السينمائية والسيارات والإذاعة والتليفزيون, وعندها عمدت الشركات إلى تسويقها فقط لدى على القلة الثرية، ولكن لجميع أفراد الشعب, ليصبح هناك ما يسمى بعدالة أنماط الاستهلاك. وفى النهاية يستعرض ترنتمان مستقبل الاستهلاك, فمع دخول العالم فترة طويلة من النمو البطىء والركود الإقتصادي, مما يعنى إنخفاض الدخل وإرتفاع البطالة بين الشباب, وحالة من عدم الإستقرار السياسى وتفشى الإرهاب, فإن التاريخ يقدم درسا مهما وهو أن ثروات الأمم تعتمد على ثروات مستهلكيها.