تعيش بريطانيا كلها حالة «سيكو دراما» منذ التصويت بالخروج من الإتحاد الأوروبي. لكن تداعيات الخروج على «حزب العمال» بالذات كانت مفاجئة ولم يكن من الممكن التنبؤ بها. لقد مزقته الأزمة إربا، وكشفت عن «أزمة هوية» تهدد وجود الحزب نفسه ووحدته بسبب الخلافات الحادة على زعامته فى أعقاب نتائج التصويت بخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبى والتى أعقبها إستقالة عدد كبير من وزراء حكومة الظل فى حزب العمال وخسارة زعيمه جيرمى كوربن تصويتا بالثقة على زعامته من نواب الكتلة البرلمانية فى الحزب، ثم إعلان النائب العمالى أوين سميث منافسة كوربن على الزعامة فى انتخابات جديدة مقرر أن تعلن نتائجها 24 سبتمبر المقبل. التطاحن الداخلى فى حزب العمال يبدو مدمرا لسمعة الحزب خاصة وبريطانيا تمر بمرحلة فارقة وهى تستعد لمغادرة الإتحاد الأوروبي. وعوضا عن أن يكون تركيز حزب العمال على شروط الخروج ونوع العلاقات المستقبلية مع أوروبا، تتجه كل أنظار الحزب إلى أزمته الداخلية. وهى أزمة ستتفاقم بغض النظر عن نتائج انتخابات الزعامة خلال الأسابيع المقبلة. ففى حالة خسر كوربن الانتخابات أمام أوين سميث ستشعر القواعد الشعبية المؤيدة لكوربن ب«الخيانة» وقد ترد على ذلك بعدم التصويت للحزب فى الانتخابات العامة المقبلة وتصوت للأحرار الديمقراطيين أو لحزب الخضر. وفى حالة انتصر كوربن مجددا، فمن المؤكد أن حزب العمال، سيشهد انشقاقا كبيرا يعرض وجوده كله للخطر. فالكثير من قيادات الحزب باتوا على قناعة أن ما تفتقده بريطانيا حاليا هو حزب وسطى كبير، يحل محل «المحافظين» و«العمال». والكثير من نواب حزب العمال بدأوا بالفعل تحركات للإنشقاق عن الحزب، ويرون أنه تحت زعامة كوربن لن يكون قادرا على هزيمة حزب المحافظين فى أى انتخابات مقبلة. وهناك كتلة داخل الحزب تضم الأعضاء الأكثر نفوذا وخبرة، باتت ترى أنه لا بديل عن تكوين حزب جديد، وعدم الإعتراف بزعامة كوربن وانتخاب زعيم جديد بدلا منه، ثم رفع دعوى قضائية تسمح لهم بأستخدام إسم حزب «العمال» للحزب الجديد، والمطالبة بمقرات الحزب وأمواله. ووسط هذا السيناريو الكارثي، دعا جيرمى كوربن أعضاء حزبه الذين يفكرون فى الأنشقاق وتكوين حزب جديد إلى «إعادة التفكير بعمق» فى خططهم، فيما قال اوين سميث إن الحزب «على حافة الهاوية»، موضحا أن الكثيرين داخل «العمال» باتوا يعتقدون أن انشقاق الحزب بات «حتميا» ما عزز المواقف المتشددة من كل أطراف الأزمة، طارحا نفسه ك»مرشح توافقي»، لديه نفس الرؤية اليسارية التى يحملها كوربن، لكنه على خلاف الزعيم الحالى حوله توافق أكبر. لم تؤد نتيجة الأستفتاء بالخروج من الأتحاد الأوروبى للأزمة الطاحنة التى يواجهها حزب العمال حاليا، لكنها فضحت عمق الأزمة وقوة الأنقسامات. فعلى أثر النتيجة بدأت الأتهامات لزعيم الحزب جيرمى كوربن أنه «لم يفعل ما يكفي» لإقناع قواعد حزب العمال بالتصويت بالبقاء فى الأتحاد الأوروبي، وبأنه قاد حملة «باردة» و«من غير حماسة» و«متلعثمة»، ما كشف ليس فقط عن حسابات سياسية ضيقة لكوربن، بل عن ضعف قياداته ومحدودية تأثيره. واليوم يواجه حزب العمال معضلتين كبيرتين الأولى: أن يظل موحدا ويتجنب الأنقسام. والثانية: أن يعود جذابا للناخب البريطاني. وهذه معضلة كبيرة لا تقل صعوبة عن توحيد الحزب. فبينما تتجه بريطانيا أجمالا نحو يمين الوسط، يتجه حزب العمال تحت قيادة كوربن لأقصى اليسار. وفى أخر استطلاع أجراه مركز «يوجوف» الحكومى لاستطلاعات الرأى العام حول ثقة الناخب فى حزب العمال ومدى حظوظه فى حالة أجراء انتخابات مبكرة، عبرت غالبية من تم استطلاع رأيهم عن ثقة أكبر فى حزب المحافظين من حزب العمال. ولا يبدو هذا مفاجئا فى ضوء «الحرب الأهلية» الطاحنة والعلنية التى تمزق الحزب، لكنه أيضا مؤشر ذو دلالة فيما يتعلق بمزاج الشارع البريطانى اليوم وهو مزاج «وسط»، يتراوح بين «يمين الوسط» و«يسار الوسط». فقد انتقل رئيس الوزراء البريطانى السابق ديفيد كاميرون بحزب المحافظين لأرضية وسطية، وذلك بالاصلاحات التى أحدثها على نظام الدعم الأجتماعى والسماح بزواج المثليين، بينما انتقل جريمى كوربن الزعيم الحالى لحزب العمال بالحزب لأرضية «أقصى اليسار». واليوم يقف حزب العمال فى مفترق طرق. فكل من كوربن ومنافسه على الزعامة أوين سميث يتباهى بأنه «أكثر راديكالية» من الأخر، أى على أقصى يسار الحزب وذلك فى محاولة لضمان أصوات «القاعدة الضيقة الأكثر راديكالية» لأعضاء حزب العمال والتى يمكن أن تكون «رمانة الميزان» فى تحديد هوية الفائز بزعامة الحزب فى الأنتخابات المقررة فى سبتمبر المقبل. لكن الفوز فى انتخابات داخلية فى حزب العمال شئ، والفوز بالانتخابات العامة على مستوى كل بريطانيا شئ أخر تماما. فتيار الوسط داخل حزب العمال يتخوف من أن التوجه لأقصى اليسار ربما يكون «مقبرة» حزب العمال. فالمزاج السياسى الشعبى والذى ظهر متجسدا بالتصويت بالخروج من الأتحاد الأوروبى فى يونيو الماضي، وقبل ذلك الفوز الذى حققه حزبا «المحافظين» و «استقلال بريطانيا» (يوكيب) فى الأنتخابات العامة فى مايو 2015 أوضح أن المزاج العام فى بريطانيا يميل نحو الوسط. وهو ما يجعل حزب العمال فى وضع معقد. فقد تعدلت الخطوط الفاصلة بين «العمال» و»المحافظين» من حيث الخطاب السياسى ومن حيث القاعدة الشعبية. ففى الأعوام الأخيرة مثلا باتت قواعد حزب المحافظين أكثر ميلا نحو الوسط. فالقاعدة الأكثر يمينية فى حزب المحافظين تركته إلى حزب «يوكيب» القومى اليمينى بعدما دعم كاميرون زواج المثليين وشكل أئتلافا حكوميا مع «الأحرار الديمقراطيين» عام 2010 وتبنى سلسلة من الأصلاحات الأجتماعية يرفضها غالبا أقصى يمين الحزب. واليوم قاعدة حزب المحافظين، المكون من نحو 150 ألف عضو، أكثر اعتدالا مما كانت عليه قبل 10 سنوات مثلا وأكبر دليل على ذلك أن تلك القاعدة اختارت كاميرون، الوسطى الاصلاحي، لزعامة الحزب مفضلة إياه على ديفيد ديفيز أحد صقور الحزب فى انتخابات الزعامة 2010. على النقيض من هذا، باتت القاعدة الشعبية لحزب العمال أكثر ميلا لليسار على خلفية الرفض الكبير لسياسات التقشف الأقتصادى والاستقطاعات فى الأنفاق الحكومي. لكن قاعدة حزب العمال لا تعبر عن مزاج غالبية البريطانيين الذين لا يؤيدون معادلة «زيادة الأنفاق الحكومى وتراكم الديون الخارجية» كوسيلة لتحسين مستويات المعيشة. ويعتقد كوربن أنه ما زال قادرا على قيادة الحزب ويقول إن عدد أعضائه تضاعف منذ انتخب وأن الكثيرين من الأعضاء الجدد هم من أنصاره. وإذا كان هذا صحيحا (وهو صحيح إلى حد كبير)، فإن هذا يعنى أن الأمل الوحيد لاوين سميث هو أن يكون أعضاء آخرين من الذين صوتوا لكوربن العام الماضى قد فقدوا الثقة فى قياداته، لكن هناك أدلة هشة جدا على حدوث هذا. فالكثير من أعضاء الحزب الجدد فى حزب العمال ما زالوا داعمين لكوربن وظهر هذا فى حملات كوربن الانتخابية الأسبوع الماضى فى لندن وليدز. فالكثير من مؤيديه يرون أنه يقدم رؤية مختلفة لحزب العمال الذى «بات قريبا جدا فى الشبه من حزب المحافظين». فكوربن، بالنسبة لهؤلاء، كشخص وكسياسيات، هو ما يميز العمال عن المحافظين. وبالتالى بالنسبة للكثير من أنصاره، لا يكفى أن يردد منافسه على الزعامة اوين سميث نفس السياسات والشعارات كى يكون بديلا جذابا. بأختصار «أنه كوربن وكوربن فقط» الذى يريده ال200 ألف شخص الذين أنضموا مؤخرا لعضوية حزب العمال. فليس هناك خلافات جوهرية فى السياسات بين كوربن وسميث. فكلاهما يريد زيادة الضرائب على الأغنياء، وكلاهما يريد تجميد سياسات التقشف وزيادة الأنفاق الحكومى لتعزيز الاستثمارات فى البنية التحتية وخلق المزيد من فرص العمل وبناء المزيد من المساكن الشعبية ودعم برنامج الرعاية الصحية الحكومي. ومع اعلان الكثير من مسؤولى حزب العمال وأعضائه الكبار نياتهم الانشقاق عن الحزب فى حالة فوز كوربن بالزعامة مجددا، يبدو أن الخريف المقبل سيكون خريفا باردا داخل الحزب، حيث سيخرج الجميع خاسرا حتى الفائز.