كل بلاد العالم تعتز بإنجازاتها وتاريخها، حتى إن بعض الدول، ممن ليس لها تاريخ بعيد، أو إنجازات تذكر، تصنع لنفسها أبطالا فى عالم السينما، لكى تغرس صفات الولاء، وحب الوطن فى نفوس أبنائها، تماماً كما فعلت الولاياتالمتحدةالأمريكية عندما صنعت الأسطورة «رامبو»، لتغرس فى أذهان شبابها فكرة البطل. وللأسف، نجد فى مصر، البعض ممن يحاولون، دائماً، تشويه تاريخ هذا البلد العظيم، وتشويه إنجازاتها، ورجالاتها، وقادتها. عندما كنت طالباً فى كلية كمبرلى الملكية فى إنجلترا، فى عام 74/1975، عقب حرب أكتوبر مباشرة، وفى أحد الأيام، وكجزء من الدراسة، ذهبنا جميعاً، كطلبة بالكلية، إلى منطقة نورماندي، التى تم فيها الإنزال من قوات الحلفاء، ضد الألمان، لاستعادة فرنسا. وأمضينا فى هذه المنطقة أسبوعاً كاملاً، كنا نقضى كل يوم منه فى إحدى المناطق، نستمع إلى شرح مفصل عن المعارك التى تمت بها، وذلك بصحبة الضباط البريطانيين، الذين قادوا تلك المعارك، أو شاركوا بها، لنتعلم استراتيجيات الحرب، والدروس المستفادة من كل معركة. وبالنسبة لي، كان من أهم النقاشات، تلك التى دارت، على مدار يومين، فى سهول نورماندي، مكان إنزال القوات البريطانية والأمريكية وباقى قوات التحالف، على الشاطئ الفرنسى فى ساحل نورماندي، فى طريقها لتحرير باريس. فقد قامت الكلية، آنذاك، بدعوة القائد الألمانى فى هذه المعركة، الكولونيل هانس فون لوك قائد فوج دبابات الجيش الألمانى فى منطقة نورماندي، الذى قاد فوجا قوامه 80 دبابة، فى مهمة تعطيل تقدم قوات التحالف، لحين وصول احتياطى البانزر Panzer الألماني، وهو الاحتياطى الاستراتيجى لهتلر، لتدمير قوات التحالف، التى تم إنزالها على ساحل نورماندي، بقوة 250 ألف مقاتل، ومئات الدبابات، والمدفعية.. إلخ. والحقيقة أن هذا القائد، الكولونيل فون لوك، استطاع، لمدة ثلاثة أيام، منع تقدم هذه القوات إلى باريس، وهو عمل عسكرى يشبه المعجزة. كولونيل، ومعه 80 دبابة، فى مواجهة بطول 30كم، يناور بقواته برشاقة بالغة. ويكيل الضربات على الأجناب للقوات البريطانية والأمريكية التى تم إنزالها. بالرغم من قصرهما، فقد كان هذان اليومان من أعظم فترات حياتى العسكرية. استمعت فيهما لفكر عسكرى متطور، ورائع، يعتمد على خفة الحركة والمناورة. ومن يومها، عشقت هذا الفكر العسكرى الألماني، وهو يكيل الضربات لخصمه فى رأس الكوبري، والخصم عاجز عن التحرك صوب هدفه. باريس. وأذكر أنى تعلمت من هذا الرجل ما عرضه يومها من فكر جديد. ألماني. لا نستخدمه، نحن، فى العقيدة القتالية العسكرية المصرية، أى بناء المواقع على الميول الخلفية. وجاء وقت الغداء، وجلسنا فى سهول نورماندى الرائعة، وتسلم كل منا وجبته، المعدة سلفاً فى علبة، وجلس العقيد فون لوك، وزوجته المصاحبة له فى الزيارة، لتناول غدائهما، فاقتربت منه وعرفته بنفسي، كضابط مصري، واستأذنته فى الجلوس معهما، فرحب بذلك، وقضينا فترة الغداء نتحدث عن الإنجاز العظيم للجيش المصرى فى حرب 73، وأسهبت فى شرح ما قام به الجيش المصرى من تخطيط، وتنفيذ. فأضاف قائلا «لقد تابعت هذه المعركة. ورأيت فيها معجزة عسكرية، بعبور خمس فرق مشاة لقناة السويس، وخرجتم من تلك الحرب منتصرين، إلا أن ذلك غير منعكس فى وسائل الإعلام العالمية، فى حين أصدر شارون 3 كتب عن هذه الحرب». وانتهى وقت الغداء، ولروعة حديثه، اتفقنا على اللقاء فى المساء لتناول العشاء، واستكملنا الحديث عن الفكر العسكرى الألماني، وتعرفت عليه أكثر، وعرفت أنه بعد هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الثانية، خرج من الخدمة، وعين رئيساً لمجلس إدارة شركة كروب الألمانية، أكبر شركة صناعة الصلب فى العالم، والتى تولت تشييد كوبرى الجامعة فى مصر، الذى تم افتتاحه عام 1958. وصرنا بعد ذلك اليوم أصدقاء، نتبادل التهانى فى المناسبات لعدة سنوات. وأثناء تناول الغداء، كان الضباط الموجودون حريصين على التقاط الصور، وعرفت فيما بعد أن هناك تقليداً للكلية، لإقامة معرض للصور، بعد انتهاء الدراسة، لاختيار أجمل صورة وتعليق للنشاطات خلال الدراسة. ومع وجود 180 طالبا، فقد ضم المعرض أكثر من ثلاثة آلاف صورة، وجاء يوم الافتتاح، وتأخرت قليلاً فى الحضور، وما إن وصلت حتى بادرنى مدير الكلية ضاحكاً « أين كنت يا نجم كل حدث فى الكلية ... لقد حصلت صورتك على مركز أجمل صورة وأجمل تعليق»، فتعجبت لأنني، للأسف، لم أشارك بأى صورة، لأننى لم أعلم بهذا التقليد مسبقا. فتابع مدير الكلية قائلاً انه صورة التقطها لى أحد الزملاء الإنجليز، مع الكولونيل فون لوك، أثناء حديثنا فى سهول نورماندي، وعلق عليها «مصر تشرح لألمانيا، كيف كان بإمكانهم الانتصار فى الحرب». وأضاف الجنرال، مدير الكلية، أن حرب أكتوبر 73 قد غيرت مفهوم العالم بأكمله عن مصر وقدراتها، فتخيلت وقتها لو لم تنتصر مصر فى حرب أكتوبر، لكان التعليق على الصورة «حديث المهزومين». وهكذا نرى كيف غيرت حرب أكتوبر مفاهيم العالم نحو مصر، ووضعتها فى مكانة أعلى مما هى عليه، فى حين يحاول البعض، من الداخل، أن يهيل التراب على كل نجاح مصرى. لمزيد من مقالات لواء أ. ح. د. م. سمير فرج