الحديث عن الهوية الأفريقية لمصر لا يكون فقط عن الموقع الجغرافى الذى جعلها جزءا من القارة، ولا يشتمل فقط على منابع النيل والأمن القومى ببعديه المائى والجغرافى الجنوبى والغربي، وإنما يشمل الأمر جوانب عدة تتعلق بالتاريخ والمصير والخبرات التاريخية المشتركة. وذكر المفكر السنغالى «أنتا ديوب»، الحاصل على الدكتوراه فى الدراسات التاريخية من السوربون، فى كتابه «الجذور الزنجية للحضارة المصرية»، أن الزنوج بناة الحضارة المصرية القديمة، أو على أقل تقدير ساهموا مساهمة إيجابية فيها، منطلقاً من شهادات مؤرخين مثل «هيرودوت» الذى زار مصر فى القرن الخامس قبل الميلاد، ووصف المصريين بأنهم سود البشرة، وكذلك شهادة الرحالة الفرنسى «فولنى» الذى زار مصر قُبيل الحملة الفرنسية على مصر، ووصف أسلاف المصريين بأنهم سود البشرة، كما انطلق الشيخ «أنتا ديوب» من دراسات أثرية للمومياوات المصرية، والرسوم والنقوش على جدران المعابد والمقابر والآثار التى حملت لون بشرة سمراء لعدد من الملوك والجنود، أمثال الملك «مينا»، و«توت عنخ آمون»، و«أوزوريس»، و«خفرع»، و«تحتمس الأول».. وغيرهم، وملامح العديد من المومياوات والتماثيل زنجية فيما يتعلق بشكل الوجه والشعر، فضلاً عن أدلة لغوية تُشير إلى روابط بين اللغة المصرية القديمة وبعض لغات أفريقية، خاصةً «لغة الولوف» المنتشرة فى غرب أفريقيا، وقدم العديد من المشتركات بينهم سواء من الكلمات أو تصريف الأفعال وتكوين الجمل وقواعد النحو والصرف، وقدم أيضاً أدلة دينية بنقض الأسطورة الحامية، مؤكداً أن «حام ابن نوح» كان أسود البشرة، وأن الحاميين بناة الحضارة، وأن بناة الحضارة لو كانوا من خارج القارة فلما لم يبنوها فى بلادهم!، وأدلة أخرى اجتماعية تتعلق بالنظم الاجتماعية وشكل المجتمعات الأمومية (الزراعية) فى مصر وأفريقيا المتشابهة، والتى تختلف عن المجتمعات الأبوية (الرعوية) فى أوروبا. وأكد الشيخ «أنت ديوب» وعلماء آخرون أن الصحراء الكبرى كانت مطيرة، وتعرضت للجفاف فى عصور تاريخية سابقة، مما دفع الجماعات إلى الهجرة شمالاً وجنوباً، وبعضهم استقل فى مصر ووادى النيل، وآخرون فى أعماق القارة الأفريقية، وبفعل التأثيرات المناخية أثرت على لون البشرة. كما تعرضت مصر لسلسلة متواصلة من التدخلات الخارجية واحتلال أراضيها بداية من الغزو الفارسى فى القرن السادس قبل الميلاد، تبعهم الإغريق والرومان فالحكم البيزنطي، ثم العربي، والتبعية للخلافة فالعصر الأموى، ثم العباسي، فالدولة الطولونية والفاطمية، والأيوبية، والمملوكية، فالاحتلال العثمانى لمصر، ثم الحملة الفرنسية على مصر، وتولى أسرة محمد على للحكم، وأخيراً الاحتلال الإنجليزى حتى قيام ثورة يوليو 1952، وكل الاحتلالات السابقة لمصر لم تكن مجرد تدخل عسكرى دون اندماج حقيقى لعناصرها بالشعب المصرى، مما أثر نسبياً على ملامح المصريين الذين امتزجت دماؤهم بكل السابقين، وغالباً ما كانت السيطرة للمحتل على شمال مصر والدلتا، وهذا يوضح الفوارق النسبية على مستوى الشكل والعادات- بين سكان شمال مصر والصعيد، فالصعيد يُعد هو الحامل الحقيقى للجين المصرى والملامح المصرية القديمة. وكذلك اكتشاف بعض الآثار مثل أهرامات السودان، والبنايات الأثرية فى خرائب زيمبابوى المبنية من الجرانيت، تُشير إلى عمق التأثير الحضارى المصرى. ومما سبق يتضح أن البُعد الأفريقى فى الهوية المصرية لم يكن مجرد انتماء جغرافى فقط، وانما يضرب بجذوره فى الحضارة المصرية تأثراً وتأثيراً. ورغم المحاولات الفكرية التى قام بها بعض المفكرين لترسيخ المفهوم القارى الشامل كمعيار محدد للانتماء الأفريقي، إلا أن هناك مدركات سلبية على مستوى الشعوب والحكام تسيطر على الأفارقة فى نظرتها لشعوب ودول شمال القارة، وبعض هذه المدركات السلبية من مخلفات الاستعمار والإعلام الغربى الذى رسخ صورة العربى تاجر الرقيق، والمشروع الاستعمارى الثقافى العربي/الإسلامى للقارة الأفريقية، وسنشير إلى المدركات السلبية المتبادلة وتداعياتها على العلاقات الأفريقية (الشمالية-الجنوبية). أولاً لابد أن الإقرار بوجود مدركات سلبية متبادلة من الطرفين، فهناك نظرة استعلائية من الشمال الأفريقى تجاه الجنوب، وتم الترسيخ فى عقول الأفارقة (جنوب الصحراء) بأن العرب (شمال أفريقيا) تجار الرقيق، وأصحاب مشروع استعمارى لتعريب وأسلمة القارة الأفريقية، وأن الإسلام السني/الوهابى المنتشر فى شمال القارة، يختلف عن الإسلام الصوفى المنتشر فى باقى القارة الأفريقية، وبعد ثورات الربيع العربي، وتولى حكومات إسلامية، أصبح الشمال مصدراً للإرهاب فى القارة الأفريقية، والدول العربية (فى الشمال الأفريقي) دائماً ما تقف مع الطرف العربى فى أى صراع عربي/أفريقي، ومع ذلك ستجد صورة إيجابية للغربى الذى استعمر القارة شمالاً وجنوباً. وبالنظر إلى هذه المدركات السلبية تجاه الآخر يمكن تحليلها والرد على هذه المزاعم عبر عدة نقاط ثابتة تاريخياً: فى بدايات نظام الرق لم يرتبط بلونٍ ولا جنس ولا عرق معين فلم يكن هناك ارتباط بين العبودية واللون، وكان الرق نتيجة للحروب، وكان الرقيق من كل الأجناس والألوان، إلا أن تكالب الدول الأوروبية الاستعمارية على أفريقيا ودخولها ميدان الرق فأضافت إلى بشاعة الرق بُعداً جديداً تعلق باللون الأسود، ومن ثم فتحوا لها باباً تجارياً تنافسوا فيه، واخترعوا مصادر جديدة للرق كالقنص، وفى بعض الأحيان استعانت هذه الدول الاستعمارية بالتُجار العرب كجلاَّبة للرقيق لعلمهم بدروب القارة ودهاليزها وبزوال الاستعمار وبالآلة الإعلامية الأوروبية رسخت عند كثيرٌ من الأفارقة بأن العرب هم أصل تجارة الرقيق. فى الوقت الذى ينظر فيه الأفارقة إلى الشمال الأفريقى بأنهم غير أفارقة رغم الأصول الأفريقية لشعوب دول الشمال الأفريقى -، نجدهم ينظرون إلى دول مثل سيشل وموريشوس بأنها دول أفريقية على رغم أن غالبية سكانها من أصول آسيوية! وفى الغالب ينسب أى تصريح لأى شخصية عربية بأنه «الموقف العربى»، وربما يكون هذا الموقف أو التصريح لشخصية عربية غير أفريقية بالأساس، وهذا يؤثر على العلاقات بين دول القارة شمالاً وجنوباً. ولقد أدت المدركات السلبية هذه إلى خلق رؤية استبعادية للشمال العربى من الحظيرة الأفريقية، وانكار دور دول الشمال «العربى» الحضارى فى القارة، وانعكست هذه المدركات السلبية فى بعض ردود الأفعال الرسمية من القادة الأفارقة، حيث قال «باندا» رئيس «مالاوى» الأسبق:» لأن ميراث العلاقات العربية الأفريقية حرم العرب من أن يصبحوا أصدقاء لأفريقيا، وتأتى صعوبة أن يصبح الجيل الحالى من العرب أصدقاء لأفريقيا نتيجة ميراث أخطاء وسلوك وممارسات أجدادهم»، وما ذكره الرئيس السنغالى «عبده ضيوف» فى قمة «منظمة المؤتمر الإسلامى» بداكار 1992: «إن هناك مشكلة، ولا أريد أن أصل إلى استخدام تعبير الاحتقار الثقافي، فنحن نحترم العرب، بينما العرب لا يحترموننا»، ليصل الأمر إلى ذروته فى مقولة الرئيس الكينى الأسبق «جومو كينياتا» عندما خاطب الصوماليين فى شمال شرق كينيا، والذين يطالبون بالانضمام إلى الصومال «خذوا جمالكم، وارحلوا عن بلادنا»، متناسياً نتيجة الاستفتاء التى سبقت استقلال كينيا، والتى قرر فيها سكان الإقليم الانضمام إلى الصومال، ومتناسياً القاعدة الأهم بحق الشعوب فى تقرير مصيرها، وعلى سبيل المثال فقد انعكست تداعيات المدركات على المؤسسات الأفريقية أيضاً، فبعد أن كانت العربية إحدى اللغات الرسمية لمنظمة الوحدة الأفريقية، إذ بالقانون التأسيسى للاتحاد الأفريقى يعتبر اللغة العربية لغة أجنبية عن القارة شأن اللغة الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية، رغم أن اللغة العربية أكثر اللغات المحلية انتشاراً فى القارة. ولم تؤثر المدركات السلبية على العلاقات المصرية الأفريقية فى فترات الاستقلال الأولى للدول الأفريقية، للدور التاريخى التى لعبته مصر فى تحرير الدول الأفريقية ومساعدة شعوبها على الاستقلال، ودعم حركات التحرير وبناء الجيوش ومحاربة العنصرية، ما دفع الزعيم الغانى «نكروما» ليقول لوزير الخارجية المصرى د. محمود فوزى، فى مؤتمر أكرا 1958 بأن يبلغ الرئيس ناصر «أن اسم مصر عزيز على الأفارقة، وأنه يرجو ألا يختفى هذا الاسم بعد أن تغير إلى الجمهورية العربية المتحدة، وأنه لا يتصور أفريقيا بدون مصر». وتراجع النفوذ المصرى فى أفريقيا بداية من النصف الثانى من عهد السادات، وتحول مصر من معسكر الاشتراكية إلى المعسكر الرأسمالى، واستمر التراجع فى عهد الرئيس مبارك، ووصل إلى إهمال القارة الأفريقية من دوائر السياسة الخارجية بعد محاولة الاغتيال الفاشلة التى تعرض لها الرئيس مبارك فى أديس أبابا فى 1995، ليصل إلى درجة توجس وإرتياب الأفارقة فى عهد الرئيس مرسي، وتمثل فى عدة مظاهر بينها تنظيم عناصر الأخوان لمظاهرة أمام السفارة الفرنسية لإدانة التدخل الفرنسى لمحاربة الإرهاب فى مالى، وتحفظ النظام رسمياً على قرار منظمة التعاون الإسلامى بإدانة الإرهاب فى مالي، بل وأدان الرئيس هذا التدخل الفرنسي، رغم تورط بعض العناصر من مصر، والسودان، وتونس، وليبيا، والجزائر فى محاولة انفصال شمال مالي، فى الوقت التى اخذت فرنسا على عاتقها الدفاع عن وحدة مالي، وتم بتأييد عدد من الدول الأفريقية، وبقرار من مجلس الأمن، وبسماح من الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ايكواس)، ومن الاتحاد الأفريقي، كل ما سبق جعل من بعض الدول الأفريقية ترتاب مع النظم الإسلامية التى صعدت للحكم فى الشمال الأفريقي، إلا أن حرص الرئيس السيسى ليكون خطابه الأول الخارجى أمام قمة الاتحاد الأفريقى فى ملابو يونيو 2014، ومحاولة عودة العلاقات المصرية الأفريقية إلى نصابها الصحيح، ومحاولة إرساء لقيم التعاون بعيداً عن الصراع فى أزمة مياه النيل ربما يفتح آفاق جديدة للتنمية المشتركة بين دول الحوض، ويفتح آفاقا جديدة لعلاقات أكثر رسوخاً بين أبناء القارة، هذا فضلاً عن محاولات العودة إلى دور مصر التاريخى فى القارة، وتبنى النظام الحالى لإستراتيجية ورؤية لمحاربة الجماعات الإرهابية سواء فى مصر أو أفريقيا، أو بتأسيس الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية فى أفريقيا. والخبرة التاريخية تُشير بأن التشكيك فى الهوية الأفريقية لمصر من قبل الأفارقة يتصاعد فى فترات الغياب المصرى عن القارة الأفريقية، ويختفى ويقل مع الوجود المصرى وفق سياسات التعاون والوحدة بين الأفارقة.