ثمة تناقض تاريخى فى قصة الانقلاب التركى أدت إلى انفجار الأوضاع بأكثر مما كان متوقعا. صديقان توافقا على أن يصعد أحدهما إلى السلطة على كتفى الآخر، مقابل أن يترك لصديقه الساحة الاجتماعية كى ينشر فيها بالتدريج نهجا إسلاميا يجابه طبيعتها العلمانية. رأى رجب طيب أردوغان وفتح الله جولن أن عليهما تغيير إرث كمال آتاتورك من هرم السلطة ومن قاعدته فى نفس الوقت. نصيب اردوغان كان السلطة، ومهام جولن كانت الهيمنة شيئا فشيئا على القواعد الشعبية عبر أتباعه فى تيار «خدمة». لم يتوقع كثيرون أن يصل هذا التوافق العقائدى الإسلامى إلى نهايته مبكرا. رغم الطفرة الاقتصادية التى شهدتها تركيا منذ عام 2003، لم يتح الوقت الكافى لدولة اردوغان – جولن كى تكون قادرة على وضع نهاية لدولة أتاتورك. حدث الشيء نفسه تقريبا فى مصر. قبل نحو عقد من الآن، كان الإخوان المسلمون يتعلمون تجربة الصديقين التركيين ويتحينون اللحظة المناسبة لتطبيقها فى مصر. كان ذلك خطأ ساذجا. وقع الإخوان فى الفخ عندما أرادوا نقل تجربة أردوغان – جولن بطريقة القص واللصق من دون بذل أى مجهود. لا يهم المصريون كثيرا أى مبادئ اعتنقها أحد من زعمائهم بقدر ما يهمهم مصر بمفهومها الوطنى. حتى جمال عبدالناصر، بكل ما يعنيه للمصريين جميعا، ترك نظاما ولم يترك مجتمعا يدين له بالولاء. لا أب للدولة المصرية الحديثة، على غرار أتاتورك (الذى يعنى اسمه والد كل الاتراك)، سوى محمد على الذى انتهى ارثه تقريبا. لم تتعلم الدولة المصرية من أخطاء الإخوان الذين أطاحت بهم. سياسة هدم أيديولوجيا الإخوان من أعلى إلى أسفل أثبتت أنها عديمة الفائدة. لماذا لا يتحالف النظام مع فتح الله جولن «ليبرالي» لمواجهة التشدد الإسلامى وتراجع معدلات التنمية وزيادة فى المقابل معدلات الجهل والفقر فى القرى والنجوع؟ من الممكن طرح السؤال بطريقة أخرى: لماذا تتصرف الدولة بفوقية تعيب عليها دائما فى حديثها عن النخب الثقافية والسياسية فى مصر؟ أى فائدة ستعيدها المشاريع العملاقة على قرى صغيرة لا تستطيع الدولة ولا المجتمع المدنى توفير وسيلة مواصلات تسمح للفلاحين بالتنقل فيما بينها؟ كيف يستطيع المصريون التخلص من عبء التسلف والتشدد أو استيعاب دعوات تغيير الخطاب الديني، من دون أن تكون الدولة قادرة على تقديم البديل؟ يتمثل البديل فى خلق تيار ليبرالى خدمى – تربوى يكون قادرا على سد الفجوات التى تركها الإخوان خلفهم فى العشوائيات والقرى النائية. بكلام آخر يجب على الدولة أن تدعم تيارا ليبراليا لا تقوم فلسفة عمله على الأعمال الخيرية بقدر ما تروم إلى بناء قاعدة تنموية تضم مراكز صحية وخدمية ومدارس تتبنى مناهج دراسية قادرة على دحض التسلف، وتكون قادرة على التحول بسرعة إلى أذرع فعالة تعيد المصريين إلى ثقافتهم ودينهم الحقيقيين. لم يعتمد فتح الله جولن على الدولة أو مواردها. كل ما كان يحصل عليه هو دعم سياسى وتشريعى كى تبقى ماكينة التغيير مستمرة فى الدوران. فى مصر، حيث الدولة غير قادرة على توفير أبسط الاحتياجات الأساسية لقطاعات واسعة من الشعب، يتعلق الناس دائما بمنظمات المجتمع المدني. ليست تلك المنظمات الخيرية التى تضج الفضائيات بإعلاناتها السقيمة والمثيرة للشفقة والاشمئزاز، بل منظمات من نوع آخر وبرامج تمويلية أخرى وفلسفة مغايرة تماما. أول ما يحتاج هذا التيار الواسع هو قيادات تحمل رؤية مغايرة تستطيع استشراف المستقبل. التمويل الجيد عنصر آخر مهم. رغبة اردوغان الجارفة فى اجتثاث تيار جولن اليوم مصدرها لا شيء سوى إدراكه حجم الخطر الذى يشكله تيار «خدمة» على فكرة الإسلام السياسى برمتها. بالطبع لم يشارك كل الموقوفين اليوم فى تركيا فى محاولة الانقلاب الفاشلة. ليس هناك أى معنى لحملات الاجتثاث الواسعة التى يمارسها اردوغان فى القضاء والتعليم والشئون الدينية والإعلام سوى ان الإسلام السياسى فى معركة شرسة لقطع يد الإسلام الاجتماعى الذى يخيم على تركيا المدنية منذ 30 عاما. فى مصر نحتاج الى حملة معكوسة تقوم فيها «المدينية» بكف يد «الإسلاموية» عن المجتمع. لا ينبغى أن يكون للقوة الخشنة دورا. هذه معركة القوة الناعمة. لا يجب أيضا ان تتخذ هذه المعركة طابعا سياسيا ولا أمنيا. لا يفهم السياسيون ولا الضباط معنى التواصل مع الناس على أسس «انسانوية» تسعى إلى تغيير واقعهم. لا ينبغى كذلك ان يكبل هذا التيار ببيروقراطية مملة. سيحتاج الأمر فقط إلى قيادة واعية وكوادر يتم انتقاؤهم بعناية فائقة. سيحتاج أيضا إلى حزمة تمويل كافية، وخطة مفصلة وطويلة المدي. التناقض فى القصة التركية صاحبه تناقض من نوع آخر فى مصر. السادات ومن بعده مبارك سمحا للإسلاميين بسد ثغرات العمل المدنى والتمدد بين الفقراء لان نظاميهما لم يكونا قادرين سوى على تلبية احتياجات الطبقات المتوسطة وما هو فوقها. اليوم باتت القاعدة الفقيرة والأشد فقرا مكشوفة تماما، ولن تكون مساعدات مؤسسات الدولة سوى مسكنات عابرة. المواجهة مع الإرهاب ليست حربا تقليدية. هناك يجب ان تكون قواتك العسكرية قوية كى تتمكن من حسم المعركة. لكن كى تربح معركة التشدد ينبغى أن تكون قواتك المدنية أقوى كثيرا. لم يتبق أمام مصر سوى ان تفتح عينيها كى ترى أين تقف قوتها الحقيقية. لمزيد من مقالات أحمد أبو دوح