فوجئت فى صحيفة الأخبار (عدد الأحد 10 يوليو 2016)، بمقال لعبد المنعم فؤاد، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، يذكر فيه أنه قد سمع فى أواخر أيام شهر رمضان تصريحات نسبت إلى الدكتور جابر عصفور يطالب فيها الأزهر الشريف باسم التنوير «بحذف الآيات القرآنية التى تتحدث عن الجهاد من المناهج الدراسية؛ لأنها ستكون سببا فى استقطاب التنظيمات الإرهابية، ومنها داعش... ثم قال: لا يصح للأزهر أن يعتبر نفسه سلطة دينية يسلط سيفه على المواطنين خاصة المعارضين له... إلخ». وقد استغرب سيادته فى البداية من هذه التصريحات، وقال لمحدثه: «لا يمكن أن ترتفع درجة حرارة الشطط من الدكتور عصفور إلى هذا الحد، ويطالب بحذف آيات من المقررات، فهو عندنا أعقل من هذا، فأكد محدثى صحة التصريح، فقلت له: إن كان ما قال حقا، فهو قول زور وبهتان. ولا يحق لأى عصفور، أو نسر، أو حتى غراب يبحث فى الأرض أن يتفوه بهذا». ومضى سيادته فى الهجوم على شخصى لما سمعه من محدثه. والحقيقة أن هذه العقلية السمعية التى يؤكدها ما ورد فى المقال هى بالضبط نموذج لخطاب الجمود الأزهرى الذى أطالب بتجديده، أولا، لأنه خطاب يخالف صحيح الإسلام الذى يقول: «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين».(سورة الحجرات. الآية 6). هذه العقلية النقلية الشفاهية وليست العقلية النقدية المُمحصة هى ما أراه علامة على جمود الخطاب الأزهري. والحقيقة أننى لم أقل هذا الكلام الذى يدّعى هذا الدكتور أننى قلته، فالأمر أبسط من ذلك وأيسر، فما دعوت إليه فى أحد حواراتى التليفزيونية هو أن يقوم الأزهر بمراجعة آيات الجهاد فى الكتب المدرسية، خصوصا تلك الآيات التى يستند إليها جند داعش فى تكفير المسلمين وذبحهم. أما عن «أنه لا يصح للأزهر أن يعتبر نفسه سلطة دينية، يسلط سيفه على المواطنين خاصة المعارضين له... إلخ». فالحق أن هذا ليس رأيى وإنما هو رأى من هو أفضل منى ومن مشايخ هذا الأستاذ فى العلم والاستنارة. أعنى الشيخ محمد عبده الذى جعل أصول الإسلام خمسة؛ الأول: النظر العقلى لتحصيل الإيمان. والثاني: تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض. والثالث: البعد عن التكفير. والرابع: الاعتبار بسنن الله فى الخلق. والخامس: قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها. فلقد هدم الإسلام بناء هذه السلطة ومحا أثرها فيما ينص الإمام محمد عبده الذى يجزم بأنه ليس فى الإسلام ما يسمى ب «السلطة الدينية» بوجه من الوجوه. وقد مضى الدكتور عبد المنعم فؤاد، أستاذ العقيدة والفلسفة بالأزهر، فى اتهامى بكل ما أوحى له به مشايخه الذين دفعوه- فيما أظن- إلى كتابة ما كتب، وأضاف إلى اتهاماته اتهاما جديدا، وهو أننى لا يصح أن أقول رأيا فى الخطاب الدينى لأننى غير متخصص فى علوم الدين، إذ إننى أستاذ فى الأدب والنقد، ويبنى على ذلك ما يزعمه من رفض اجتهادى الخاص وذهابى إلى أن الحجاب ليس بفريضة أو أن كتب الصحاح كالبخارى فيها أحاديث خاطئة. أما عن أننى لا يحق لى الكلام فى الشأن الديني، فيرد عليه وعلى مشايخه أمران؛ أما أولهما فهو أن الإمام محمد عبده قال: «لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه، وعلى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) «كان مبلغا ومذكرا لا مهيمنا ولا مسيطرا»، ولم يجعل لأحد سلطة أن يحل أو يربط لا فى الأرض ولا فى السماء. ولكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسول الله دون توسيط أحد من سلف أو خلف. فكل مسلم مدعو للاجتهاد فى فهم دينه. وهذه كلمات سمحت للمستشار سعيد العشماوي، عليه رحمة الله، أن يكتب كتابه العظيم عن الحجاب، وأن يثبت بالحجة النقلية والعقلية أن الحجاب ليس فريضة. وهذا عين ما ذهب إليه رفاعة الطهطاوى فى كتابه «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز»، وما ذهب إليه أيضا الشيخ محمود شلتوت والشيخ عبد المتعال الصعيدى فى السلسلة النيرة التى يفخر بها الأزهر، والتى تمتد إلى الدكتور محمد البهى وتلميذه الدكتور محمود زقزوق، وكل هؤلاء لم يروا فى الحجاب فريضة، وإنما رأوا فيه مسألة عادة وليست مسألة عبادة. والأمر الثاني: أننى أستاذ جامعى مسلم، يتقن علوم الأدب والبلاغة، ويعرف من علوم اللغة والكلام والفلسفة ما يتيح له الاجتهاد فى فهم دينه لمصلحة مقاصد دينه التى تؤكد أن الاجتهاد فريضة واجبة على كل مسلم مستنير، إلى درجة الإثابة عن الخطأ فى الاجتهاد، فحق الخطأ مقرر فى أحاديث نبينا الصحيحة التى يبدو أن مشايخ الأزهر نسوا هذا الحق، واستبدلوا به لغة لا تليق بمراتبهم الدينية التى تفرض عليهم المجادلة بالتى هى أحسن. وقد سرت على نهج الأعلام الذين ذكرتهم وأضفت إليهم اجتهادا رأيته. أما عن كونى أستاذ أدب ونقد، فما أفهمه أن هذا شرف وليس تهمة لا يمكن أن يقولها أستاذ فى العقيدة والفلسفة, فعباس العقاد الذى كان أديبا وشاعرا وروائيا كتب فى الإسلام ما لا يستطيع أن يكتبه الدكتور عبد المنعم فؤاد ولا مشايخه الذين أوحوا إليه- فيما أظن- أنه لا يجوز لمن يتخصص فى الأدب والنقد أن يفهم من كتاب الله وسنة رسوله وتراث علمائه العظام ما يهديه إليه عقله واجتهاده. وأنه ليس فى سلطة أحد أن يمنعه من الاجتهاد، فربما يكون هذا الاجتهاد خيرا للمسلمين وأبقي. ولولا ذلك ما كتب العقاد العظيم: «التفكير فريضة إسلامية»، و«حقائق الإسلام وأباطيل خصومه»، فضلا عن كتبه الشهيرة فى العبقريات والإسلاميات، ولم يقل عاقل من علماء الأزهر للعقاد لا تكتب فيما ليس لك فيه، فينبغى أن تدخل كلية من كليات الأزهر لتجتهد فى فهم دينك، فمقولة التفكير حتى فى مسائل الدين فريضة إسلامية واجبة على كل مسلم مستنير، مهما كان تخصصه، ما ظل هذا المسلم حريصا على تحرير الخطاب الدينى من الجمود الذى هو عليه. أما أن كتابا من كتب الصحاح، وهو صحيح البخاري، فيه من الأحاديث المكذوبة، فهذا حق لا ينفيه إلا من لم يقرأ البخاري؛ فالبخارى لم يكن معصوما من الخطأ، وصحيحه لا يخلو من أحاديث ضعيفة أو مكذوبة عن النبي- صلى الله عليه وسلم. أما بقية مقال الدكتور عبد المنعم فؤاد ومحاولته السخرية، فلن أقابلها بسخرية لأنى لا أعرف السخرية فى مقام العلم، وما أعرفه حقا هو أن أقدم للعقلاء والمستنيرين أفكار وآراء بعض الأزهريين بوصفها نموذجا لجمود الخطاب الدينى فى الأزهر وورفضه للتجديد، وكيف يمكن أن يتجدد هذا الخطاب وهو على ما عليه من جمود واعتماد على النقل والسماع بدل الاعتماد على العقل وتمحيص المصادر الأساسية والسماح للمسلمين بحق الاجتهاد والاختلاف، ونبينا العظيم هو الذى علمنا أن من اجتهد فأصاب فله أجران، وأن من اجتهد وأخطأ فله أجر واحد، وهو حديث جليل يؤكد أن المسلم المجتهد له أجر حتى ولو أخطأ. وهذا هو مغزى المصطلح الذى صاغه طه حسين العدو اللدود للعقليات الجامدة عندما كتب فى جريدة الجمهورية سنة 1955 مقالة بعنوان: «حق الخطأ». وأرجو أن يعود إليها أستاذ العقيدة والفلسفة ليتعلم منها الامتداد الحى لأفكار الإمام محمد عبده التى يفر منها مشايخ الجمود فرار السليم من الأجرب. ولله الأمر من قبل ومن بعد. لمزيد من مقالات جابر عصفور