الخطاب الدينى أساس روح المجتمع وقاطرة تنميته، لذلك يثار تجديده منذ أكثر من قرن ونصف القرن، دون حسم، ثم رأى وزير الأوقاف أن يجرده من كل حياة. بالرغم من الطرافة الخطيرة لبعض فتاوى أهل الدين الإسلامى والمسيحى على السواء، فإنى لم أتصور أن تصبح هذه الخطورة قرار وزير، لذلك أدهشنى إصرار وزير الأوقاف على الخطبة، ليست فقط الموحدة، بل المكتوبة أيضا، أى أن يردد خطيب المسجد الكلمات نفسها إلى نحو تسعين مليونا من المصريين مباشرة، أو عن طريق الإعلام، لا فرق بين اهتمامات ومشكلات كبرى المدن، أو نجوع أعماق مصر، سكان الزمالك أو حى الزبالين، شباب ما دون العشرين عاما أو شيوخ ما فوق الستين، أى عدم التكيف مع الوضع المحلى بالمرة، وبالتالى قتل أى محاولة لمعظم هؤلاء المصلين للاسترشاد بالخطبة فى ممارساتهم اليومية مادامت لا تتناسب وطبيعة مشكلاتهم وظروفهم الحياتية، بل فى الواقع ترسل رسالة سيئة إليهم بأن الوزارة لا تهتم بمثل هذه الأمور، تكون النتيجة عن قصد أم لا عكس ما تهدف إليه الوزارة، أى انصراف معظم السامعين عن الإمام وما يردده، والبحث الجاد عن بديل على تواصل مع وضعهم، وينصت إليهم. فى الحقيقة محتوى الخطبة وتطويرها مهم، فهو لا يتعلق بسلوك مجموعة واحدة من المجتمع، ولكن بثقافة المجتمع ككل، خاصة عند الشعوب التى يؤدى فيها الدين دورا مركزيا، مثلما هو الحال بين الشعوب العربية والإسلامية، خطبة الإمام هى فى الواقع جزء لا يتجزأ من تشكيل الثقافة العامة، وحقيقة أكثر تأثيرا بكثير مما نقدمه فى المدارس وحتى الجامعات، لأنها وسيلة نشر تعاليم وقيم مستمرة، صيفا وشتاء، ليلا ونهارا، وتذاع على الجميع، حتى من خارج المساجد، وذلك عن طريق أجهزة الإعلام المختلفة. الإمام هو فى الحقيقة أكثر تأثيرا فى المجتمع من المدرس فى المدرسة، أو الأستاذ فى الجامعة، مهما كانت علمية هذين الأخيرين، ولكن لا نهتم بتكوين وتثقيف مجموعة الأئمة هذه، والتعليم الدينى أساسا كما يجب ويستحق، بل يخشى البعض التعرض له كما لو كان هذا مساسا بالدين، وهذا طبعا هراء منتشر، لأن هناك فرقا بين الدين المقدس والقائمين بتدريسه وتفسيره، الذين ما هم بشر كالآخرين، ويوفقون ويخطئون، مجتهدين وملتزمين، أو أدعياء علم، لذلك كانت الدعوة للاهتمام بالتعليم الدينى موضوع فصلين متميزين من مجلد الذكرى العاشرة لتقارير برنامج الأممالمتحدة الإنمائى عن التنمية الإنسانية العربية فى القرن الحادى والعشرين، والذى قام بنشر نسخته العربية مركز دراسات الوحدة العربية فى بيروت. ولإدراج موضوع التعليم الدينى فى التقرير الأممى قصة هى نفسها لها مغزي، فأى تقرير ذكرى للتقارير السابقة يجب أن يعترف بفضل هذه الأعمال السابقة، وهى القاعدة التى احترمها التقرير الأممى للتنمية الإنسانية العربية فى ذكراه العاشرة، إلا أنه واجه مشكلة فيما يتعلق بموضوع التعليم، حيث قالت التقارير السابقة كل ما يمكن أن يقال عن هذا الموضوع، بل بالإضافة إلى نشر البنك الدولى فى 2007 تقريرا متميزا عن التعليم فى الشرق الأوسط، بإشراف الاقتصادى المصرى المتميز ووزير المالية السابق، د. أحمد جلال، أين المعضلة إذن؟ جاءت المعضلة من أن تقرير البرنامج الإنمائى فى ذكراه العاشرة لا يستطيع أن يضيف شيئا مهما، ولكن فى الوقت نفسه لا نستطيع نشر تقرير تلخيصى عن التنمية الإنسانية العربية دون التعرض لأهم أعمدة التنمية، ألا وهو التعليم، وكان قرار هذا التقرير التلخيصى بالاهتمام بما لم يتم التركيز عليه رغم مركزيته فى تكوين عقلية الطالب وشخصيته، ألا وهو التعليم الديني، ولما ذكرت حل المعضلة بهذه الطريقة، تردد البرنامج الأممى بالرغم من اقتناعه بأهمية التعرض لهذا الموضوع الحيوى الذى طال تهميشه، وكان القلق من أن يتم تفسير الكتابة فى هذا الموضوع على أنه مساس بالدين الإسلامى أو المسيحي، وبالتالى تتعرض منظمة الأممالمتحدة بكاملها للنقد، وحتى الهجوم على مكاتبها، وهذه المخاوف ما هى إلا انعكاس لما قلناه سابقا من الخلط بين الدين وقدسيته، ومن يقومون بتدريسه أو التعبير عنه من أئمة وكهنة، وهم بشر معرضون للخطأ وحتى النقص فى التعليم، وفى النهاية اقتنع البرنامج بمحاولة الدراسة والبحث فى حالة التعليم الديني، على أن تكون له الكلمة الأخيرة إذا لم يتم هذا البحث والتحليل بالمهنية العلمية، الموضوعية المعترف بها، وتم فعلا نشر وطباعة الفصلين بعد تقييمهما من مقر الأممالمتحدة فى نيويورك، يحتوى هذان الفصلان ذات المائة صفحة على بنك معلومات عن حالة التعليم الدينى فى البلاد العربية، عبارة عن ثمانية جداول، وعشرة أشكال بيانية، بالإضافة إلى اثنى عشر اقتباسا من أهل الرأى والخبرة، لتوثيق التحليل عن حالة هذا الحقل فى تربية الفرد، وتكوين المجتمع، مثل نسبة موضوعات التربية الإسلامية فى العديد من مناهج الدول العربية، ماهية القيم الاجتماعية التى تنص عليها ونسبتها، سواء فى هذه المناهج المدرسية، مسلمة ومسيحية، أو فى خطب الجمعة، ثم تقوم بتحليل العديد من الوثائق، سواء من الأزهر أو جامعة الزيتونة الشهيرة بتونس، لتؤكد جمود التعليم الديني، والخوف من التجديد. وزارة الأوقاف على حق إذن فى قلقها من تدنى مستوى العديد من الأئمة، ولكن الخطبة المكتوبة ليست هى الدواء المطلوب، بل فى الواقع تزيد من الداء عن طريق إيجاد ببغاوات يرددون ما يكتب لهم بدلا من تعلم مهنة البحث، ومزاولة الاجتهاد والإبداع، ليتواصلوا مع جماهير مصليهم ومشكلاتهم اليومية. الدواء المطلوب هو مواجهة مشكلة التعليم الدينى نفسه، وكيفية تكوين رجال الدين لمساعدتهم على مزاولة الاجتهاد والتعليم المستمر، بحيث تكون الخطبة مرشدا عمليا لجموع المصلين على اختلاف أنواعهم فى مواجهة التحديات التى يقابلونها على أرض الواقع المعاش، هكذا نربطهم بالأئمة ونهزم التطرف. لمزيد من مقالات د.بهجت قرني