أن تنغمس في الحدث فإنك تعيش بعض تفاصيله ,أما أن تحلق عن بعد, فإنك تري عموم المشهد; وتستطيع أن ترصد نقاط التحول والوزن النسبي لكل اتجاه يطرأ علي هذا الحدث أو يحركه!! والجموع البشرية بطبيعة تكوينها, كمثل ما تحتاج إلي من يخطط لها ويقود حركتها,فإنها تحتاج دوما إلي من يحفز جرأتها نحو الخطوة التالية ويوقد شرارة تصرفاتها, وربما يكون هذا المحفز مجرد شخص واحد,ما إن يقدم علي فعلته حتي تتبعه الجموع العمياء في غمرة حماستها!! ويحكي لنا التاريخ أنه حين قررت الجموع إبان الثورة الفرنسية مهاجمة سجن الباستيل, وتدفقت الأفواج من كل أنحاء باريس منذ التاسعة صباحا حتي الثانية ظهرا وهتافها صيحة واحدة:( إلي الباستيل.. إلي الباستيل), واندفع الناس نحو ساحته,توقع الناس بالطبع أن يكون في انتظارهم حشد غفير من الجند المدججين بالسلاح,ولكن ما لم يتوقعه هؤلاء هو أنهم فوجئوا بجميع الجسور الممتدة فوق الخندق المحيط بمبني السجن قد تم رفعها فتعطل تفكير الجموع لفترة, إلي أن أقدم رجلان,لم يذكر التاريخ اسميهما, فانهالا علي السلاسل المثبتة لأحد الجسور المعلقة ضربا بالفأس, ففهمت الجموع المعني, فانضموا إليهما, فما لبث الجسر الأول أن هوي إلي الأرض, ثم اتجه آخرون غيرهم إلي جسر آخر فهوي,فعبر الناس فوقهما الخندق,ودارت معارك تاريخية طاحنة حتي سقط الباستيل رمز الظلم والاستبداد!! هذان الرجلان اللذان انطلقا في البدء هما ما يعنيني في غمار ذلك المشهد برمته,فلولاهما لما تغير اتجاه الجموع,ولكانت هذه الجحافل صيدا ثمينا لفوهات بنادق الجنود المتأهبة!! هذان الرجلان هما مربط الفرس:مستصغر الشرر الذي أجج معظم النيران,أوليس معظم النار من مستصغر الشرر؟ ولذا,فأجدني أترك الفرنسيين في غمار ثورتهم التي تأججت في ذمة التاريخ, فأعود بك فأنظر إلي حال الثورة المصرية المتأججة,فأحاول جاهدا أن أمعن النظر في مستصغرات الشرر,ربما قبل اندلاع الثورة نفسها أو في غمارها,لعلنا نكتشف( معا) أي جسور تلك التي أنزلناها؟أما الأهم فهو أن نكتشف أيضا أي جسور(لم يكن يصح) أن تنزلها الجموع الغاضبة,وأصبح لزاما علي الجموع( اليوم) ألا تعبرها وأن تعيد إليها( السلاسل) مرة أخري فترفعها ؟ فأجدني أمام ثلاثة حوادث بعينها ربما لم ينتبه إليها الكثيرون: اثنان منها مهدا بدون قصد للثورة قبل اندلاعها, وثالث أحدث بالثورة تطورا نوعيا بعد اندلاعها,وأري أن في إغفال الحوادث الثلاثة جورا كبيرا: أما الأول, فكان عقب إدانة رجل الأعمال عماد الجلدة قبل اندلاع الثورة بفترة;حين( تجرأ) مؤيدوه فأقدموا علي فعلة لم يسبقهم إليها أحد في بر مصر من قبل, ألا وهي مداهمة منصة المحكمة التي أصدرت الحكم بإدانة رجل الأعمال المذكور,ثم ما لبثوا أن قاموا بتحطيم قاعة المحكمة عن بكرة أبيها في سابقة لم يشهدها تاريخ القضاء المصري,فيما شكل ثغرة رهيبة في الصورة الذهنية الجمعية عن جدار القضاء عموما بتصرف غوغائي غير مسبوق,وبما كان من شأنه أن مهد الطريق في اللاوعي الجمعي نحو سهولة احتذاء البعض حذو الغوغاء( فيما بعد);فكلما صدر عن محكمة حكم لا يرضي الناس,أضرموا نيران الغضب في المحكمة وتهددوا القضاة أينما ذهبوا, وفي ذلك مفسدة كبري لا يعلم مداها إلا الله,تحتاج إلي تصويب سريع وحسم قاطع من أولي الأمر لضمان عدم التكرار,ذلك لأن الاعتراض علي أحكام القضاء مجاله المنطقي ليس( الشوارع) وإنما ساحات المحاكم بأسانيد قانونية لا تحتمل التباسا;فنحن لسنا في رحاب مقهي شعبي يجوز لرواده الاعتراض وتبادل الشتائم واللكمات احتجاجا علي( أسعار المشاريب),وإنما نحن في رحاب دولة يحكمها قانون لا ينبغي أن يمسه إلا(العالمون به)!! أما الحادث الثاني, الذي أري فيه مستصغر شرر آخر لنيران الثورة فكان علي يد الإخوة الأقباط في أحداث العمرانية الأخيرة قبل اندلاع ثورة يناير مباشرة,وتحديدا في الخامس والعشرين من نوفمبر2010, علي خلفية اعتراض السلطات المحلية علي تحويل أحد المباني إلي كنيسة دون الحصول علي التراخيص اللازمة, والشروع في إزالة هذا المبني, الأمر الذي أدي إلي صدام مع أفراد الشرطة بلغ حد مهاجمة مبني محافظة الجيزة وتحطيم بعض واجهاته باستخدام(الطوب والحجارة),في مواجهات اتسمت بعنف شديد وتحول معها مدخل شارع الهرم إلي ما يشبه شوارع قطاع غزة, فكانت بادرة( جرأة) مهدت الطريق نحو( جرأة أكبر) حولت شوارع مصر و ميادينها قاطبة إلي ما يشبه مواجهات الفلسطينيين مع قوات الاحتلال الاسرائيلي!! ونحن هنا لسنا بصدد إلقاء اللوم علي طرف دون طرف,وإنما نحن بصدد رصد مستصغر الشرر, بصرف النظر عن مدي مشروعية المطلب الذي تسبب في اندلاع هذا الشرر من عدمه!! أما الحادث الثالث, فكان أيضا من نصيب الأخوة الأقباط في فترة ما بعد اندلاع الثورة نفسها,حين فتح هؤلاء ثغرة أخري في جدار جديد هو جدار احترام هيبة الجيش بوقوع أحداث ماسبيرو,فيما اعتبر سابقة هي الأولي من نوعها أيضا,ونهاية لشهر العسل بين الجيش والشعب,من بعد أن تجرأت الجموع تتري علي هيبة الجيش بعد ذلك,وأصبح في حكم العادي جدا أن نري المصادمات تتوالي بين الجيش والشعب في مناطق متفرقة من البلاد بعد هذه الحادثة مباشرة علي طريقة( جربناها ونفعت)!! والغريب هو أن الحوادث الثلاثة استهدفت( ربما بقصد أو بدون قصد بالمرة) ثلاثة جسور رئيسية في منظومة هيبة أي دولة في غفلة من الجميع وهي جسور: القضاء, والشرطة, ثم الجيش,وأنا لا أتهم هنا أحدا بتهمة بعينها أو بالتخطيط أو التواطؤ من أجل النيل من هذه الهيبة,وإنما أرصد فقط بعين المحلل مفردات المتغيرات التي طرأت علي الواقع المجتمعي المنفعل أمامي بصرف النظر عن كون هذا التصرف أو ذاك قد جاء نتيجة عدوان من جانب من قاموا به, أو جاء نتيجة كبت تولد عنه انف.جار شعبي في المقابل, وإنما نحن أمام حوادث ثلاثة لافتة لا يمكن المرور عليها مرور الكرام بأي حال من الأحوال( لقوم يتفكرون)!! وأترك ما مضي, فألفت ناظريك إلي جسرين جديدين هبطا لتوهما في ساحة المشهد الحالي بعد عام وقرابة نصف العام من الثورة: الأول,هو جسر التحرش بالفتيات والنساء إلي حد التجريد من الملابس في وسط الجموع جهارا نهارا,وهو تصرف لو تعلمون عظيم يحمل أقبح متغير لم يكن في الحسبان,تكمن خطورته في كونه تكرر أكثر من مرة علي نحو جريء مشابه يستدعي ردعه فورا,وإلا قل علي الفتيات يا رحمن يا رحيم في كل ربوع مصر;أما الجسر الثاني,فهو جسر التشفي,والانتقام, والرغبة في التنكيل, والإمعان في إذلال الخصم,وهو في رأيي أبشع جسر عبرته الجموع المنفعلة واستجابت لمن أنزلوه!! تلك هي الجسور التي هبطت بطريق الخطأ حتي تاريخه, فهل من( رجل) يعيدها إلي ما كانت عليه؟ المزيد من أعمدة أشرف ع بد المنعم