لم تتعرض منطقة جغرافية منذ الحرب العالمية الثانية لحجم الدمار الهائل الذي تتعرض له المنطقة العربية، والتي عصفت بجنباتها النزاعات والحروب في سورياوالعراق وليبيا واليمن، ومعظم تلك النزاعات راجع لأسباب محلية، وتدخلات اقليمية، ومصالح دولية متعارضة، واستخدمت كل الاطراف اسلحة دمار فتاكة حديثة اضيف لها عنف غير مألوف وممنهج لجماعات ارهابية متطرفة، تمارس اشنع صنوف التعذيب و القتل وارتكاب انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الانساني ولمنظومة حقوق الانسان، ففي سوريا وحدها نحو 700 مجموعة ارهابية مسلحة من داعش لجبهة النصرة لمرتزقة اجانب وفدوا لسوريا من كل حدب وصوب ، يمارسون أبشع أنواع القتل والتعذيب وحرق المدن ، والمؤسف تلقيهم دعما و تمويلا دوليا واقليميا غير خاف. ورغم تلك الصورة المؤلمة فإن ثمة تحركات دولية واقليمية لتحقيق السلام، فتجري علي ارض الكويت الشقيق محادثات بخصوص اليمن، وتستمر الاتصالات والتحركات الدولية بشأن سوريا رغم توقف مسار جنيف ، وبات هناك اجماع ليبي ودولي علي مخرجات السلام والمصالحة عقب مؤتمر الصخيرات ودعم حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج، مع تحركات لتأكيد دور الجيش الوطني الليبي العامل في شرق البلاد، تمهيدا للحصول علي الثقة من البرلمان الشرعي المنتخب في طبرق. وحالما تستشعر الدول والشركات والمصالح الكبري ان الاوضاع تتجه نحو السلام والاستقرار في مناطق النزاعات تلك، حتي تهب للفوز بنصيبها من جهود اعادة الاعمار و بناء ما دمرته الحروب ، وبناء المدن والصناعات واعادة تأهيل المرافق والبنية التحتية من مياه وكهرباء وطاقة ونقل وطرق وكبار وغيرها . ولتقدير حجم الدمار ، قدر المركز السوري لبحوث السياسات خسائر الاقتصاد السوري بنحو 200 300 مليار دولار خلال سنوات الحرب الخمس التي انخفضت فيها الليرة السورية بنسبة 82% ، وزاد معدل التضخم لنحو 90%، وبلغ حجم الدمار في البنية التحتية للدولة 75 مليار دولار ، وتحتاج جهود اعادة الاعمار لنحو 180 مليار دولار، وانهار الاحتياطي النقدي الاجنبي في سوريا من اجمالي 20 مليار دولار عام 2010 الي اقل من 700 مليون دولار فقط عام 2016. وعلي صعيد الكلفة الانسانية - وعلي نحو ما اوردته احصاءات المفوضة السامية لشئون اللاجئين التابعة للامم المتحدة- فقد قتل في النزاع السوري 250 الف شخص ، وبحسب تقديرات المركز السوري لبحوث السياسات، فإن هذا الرقم قد يتجاوز 470 الف شخص، وتقدر المفوضية السامية عدد المصابين نحو مليون ونصف المليون شخص 4.8 مليون لاجيء مسجل لديها، 7.6 مليون نازح تعرضوا للنزوح القسري بين المدن السورية ،وتقدم نحو 900 الف طلب للجوء في اوروبا مابين اعوام 2011 2016 . كانت تلك مجرد لمحة لحجم الكارثة الانسانية والاقتصادية التي لحقت بواحدة من مناطق النزاع المنتشرة علي خريطة عالمنا العربي، ناهيك علي استمرار الوضع المأساوي في غزة وباقي فلسطين وحجم ما تعرضت له من دمار ممنهج عبر سنوات الاحتلال، يضاف لها ما تتعرض له مصر وتونس والاردن ولبنان من اعتداءات ارهابية لها كلفتها الانسانية واضرارها علي الاقتصاد والسياحة وجذب الاستثمار الخارجي. وكبارقة امل يشير العدد الجديد من تقرير المرصد الاقتصادي التابع للبنك الدولي عن منطقة الشرق الاوسط (ربيع 2016) ، الي انه لو تم تطبيق الهدنة المتفق عليها في سوريا، واستمرت محادثات السلام في اليمن، وليبيا بما يؤدي للحد من انتشار القلاقل والصراع في اماكن اخري بالمنطقة، فيمكن تحسن النمو الاقتصادي خلال فترة التوقعات عامي 2017 2018 . اذا فالأمل قائم ،وكل السعي سينصب نحو جهود اعادة الاعمار خلال السنوات المقبلة، فتتحقق الارباح ويستفيد المستفيدون وشركاتهم، كل بحسب حجمه و مكانة دولته، فمنهم من سيسعي لحصد كلفة الصراع ويفوز بمواضع اقدام وقواعد برية وحربية علي الاراضي السورية ومنهم من سيسعي للفوز بعقود إعادة تأهيل قطاع النفط و الطاقة والكهرباء، وهكذا ستتباري نفس القوي التي دمرت سوريا وغيرها من البلدان العربية لتعيد بناء ما دمرته آلة الحرب التي مولتها وحرضت عليها بشكل مباشر وعبر جماعات ارهابية وميليشيات مسلحة ، فقد كان الصراع السوري بحق حلبة صراع طاحن بين قوي اقليمية ودولية، ومسرحا لمخططات تقسيم طائفي واثني بكلفته الانسانية الباهظة والتي عبرت الارقام التي اوضحناها عنه بوضوح ، وينسحب ما تقدم بشأن سوريا علي باقي مناطق النزاع الاخري . ومايعنيني هنا في هذا المقال وبحسب العنوان ليس فقط موضوع الاعمار و اعادة البناء علي اهميته القصوي ،ولكن عملية اعادة «الاعمار السياسي» في المنطقة، فإعمار البناء وتأهيل البنية التحتية امر مفروغ منه ويتم بشكل فني طالما توافر التمويل المناسب ، اما الاهم فهو اعادة الاعمار السياسي، فالنزاعات بالمنطقة نشأت في غياب اي قاعدة او مباديء تعايش تحترمها دول الجوار خاصة تركياوايران، والتي ادت محاولاتها بسط النفوذ و الهيمنة و تسليحها للميليشيات والجماعات الارهابية المسلحة، وتبنيها سياسات مذهبية تجاه ابناء الوطن الواحد ، مما ادي للعنف الطائفي في العراق واليمن ولبنان وسوريا بالطبع ،وهو ما حطم بنيان وكيان الدولة القومية الجامعة وبث الفرقة والانقسام . واضعف قاعدة المواطنة الحصينة، مااتعس تلك الشيع والاقليات المذهبية، وربطها بتحريض الخارج، وتصادمها مع الدولة واستعانتها واستقواءها بتلك القوة الاقليمية واقصد هنا ايران، التي ادت تدخلاتها لتهديد امن واستقرار العديد من البلدان العربية، بينما تناصر دولة اخري تنظيمات راديكالية متطرفة وميليشيات مسلحة لتحقيق اهداف سياسة و الهيمنة علي مقدرات الدول واقصد هنا تركيا . يلزم إذن الاتفاق علي قواعد للتعايش مع تلك الدول، ففي المنطقة متسع للجميع، وللجميع مصلحة في ان يسود عالمنا العربي ومحيطه الجغرافي ، حالة من الاستقرار تسمح بإطلاق طاقات شعوبنا ودولنا ، لاسيما بعد سنوات المعاناة الاخيرة ،وما تحملته المنطقة والعالم من كلفة بشرية وانسانية واقتصادية تفوق الوصف . ما اقترحه هو تبني اعلان مباديء اقليمي يؤسس لمرحلة جديدة من التعايش ، وفقا لمجموعة مباديء مستقرة تحكم العلاقات بين دولنا وجيراننا خاصة مع تركياوايران، وتبقي اسرائيل خارج الاعلان لحين التزامها بحل القضية الفلسطينية ،والباب متسع لدول جوارنا الافريقية خاصة اثيوبيا ، فهدف الاعلان الاقليمي لمباديء الامن و السلم والتعاون ،هو بناء صرح تقوم عليه علاقات تعاون وتنمية جديدة ، تلتزم بمقتضاه دولنا و جيراننا ، بقواعد حاكمة للتعايش قوامها حسن الجوار وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول ، وبهدف خلق مناخ من الثقة المطلوب لاطلاق طاقات دولنا وشعوبنا ، وذلك اسوة بمناطق اخري كثر في العالم يحكمها قواعد تعايش مستقرة ،وآن الأوان لمنطقتنا لصياغة اعلان مباديء اقليمي ينظم علاقات دولنا ويحقق التفاهم السياسي مع جوارها الجغرافي، ويرسي لأسس الامن والتعاون والتنمية الاقتصادية والثقافية بالمنطقة، وفقا قواعد حسن الجوار وغيرها من مباديء القانون الدولي وميثاق الاممالمتحدة. وبعد تبني هذا الاعلان الاقليمي للمباديء تتم دعوة بلدان الجوار خاصة ايرانوتركيا للانضمام والتوقيع كذلك علي هذا الاعلان الذي سيمهد لمرحلة جديدة من التعاون والاستقرار والامن والتنمية . ويمكن طرح تصور مبدئي للإعلان المذكور الذي سيتم الترويج له بالشكل المناسب اي من خلال الدبلوماسية الرسمية او الدبلوماسية الموازية (Track2) ، ومن خلال دولة رائدة كمصر لتحرك المبادرة او من خلال الجامعة العربية اومن خلال تحرك عدة دول كمصر والامارات والمملكة السعودية . ويبقي ان اؤكد ان ماسبق عرض محاولة للتأثير في مسار المستقبل ، ورفض واقع العنف والنزعات التي لا اراها قدراً محتوماً ، اللهم إلا لو سلبت منا الارادة و القرار ،ورضخنا لخيارات الاخرين وتخطيطهم لمستقبلنا وخرائط المنطقة، وقد يبدو المسار صعبا وربما غير ممكن من البعض فليظل حجم الخلافات والتدخلات ،ولكن الم تنشأ اوروبا من واقع الحروب والمواجهة، والم يكن مذهلا ما حققته مبادرة الرئيس السادات وسفره للقدس في خضم صعوبات وحروب ،وبعدها تحقق السلام ، بكل تأكيد من المنطقي ان يتملكنا التشاؤم وواقع المنطقة الآن علي ماهو عليه ، ولكن علينا دائما التفكير باتساع وطموح والتصرف بحكمة وواقعية ، واستمرار المبادرة والمحاولة الدءوب، والاهم ان تتكون لدينا قناعة بأننا قادرون علي التغيير، وان الواقع تصنعه الارادات ، وفي حالتنا نحن بحاجة لارادات وطنية جريئة ومخلصة، ولدينا هذه القيادة ونملك تلك الارادة المطلوبة للتصدي للسيناريوهات المفروضة من الخارج علينا، لخيارات مأمولة وطموحة وواعية تستشرف المستقبل الآمن لاجيالنا المقبلة . لمزيد من مقالات د . محمد حجازى