البرلمان وافق بشكل نهائى على الموازنة العامة الجديدة. الشهادة لله.. الحكومة كانت تضع يدها على قلبها من الخوف. فمن ناحية هى قد أرسلت الموازنة للبرلمان فى وقت متأخر ولم تلتزم بالمواعيد التى حددها الدستور، والتى تقضى بأن من حق البرلمان ثلاثة أشهر بالتمام والكمال لدراسة ومناقشة الموازنة. ومن ناحية أخري.. الحكومة تعلم أن المهلة المحددة للوفاء بالاستحقاقات الدستورية للإنفاق على الصحة والتعليم والبحث العلمى ضمن الموازنة العامة للدولة قد انتهت، وأنه يتعين على الحكومة الوفاء بتلك الاستحقاقات فى الموازنة الجديدة... لكن طبعا ربنا سلم.. والبرلمان وافق وأقر الموازنة.. وحل معضلة الاستحقاقات الدستورية كمان! الحكاية إن المبالغ التى رصدتها الموازنة العامة للإنفاق على الصحة والتعليم والبحث العلمى لا تفى بالاستحقاقات التى نص عليها الدستور. طبعا تتوقع وأتوقع معك أن يطالب البرلمان الحكومة بزيادة الاعتمادات إلى المستويات المطلوبة، وأن تتعلل الحكومة كالمعتاد بأن العين بصيرة واليد قصيرة. تتوقع أيضا وأتوقع معك أن يصر البرلمان على احترام الدستور، وأن يتنهز الفرصة لتذكير الحكومة بأنها قد ضحت طواعية بموارد مالية معتبرة هى فى أمس الحاجة إليها حين أقامت مهرجانا لتخفيض الضرائب على الأغنياء والمتعاملين فى البورصة وكبار رجال الأعمال، وأنها لا تقوم بواجبها فى تحصيل الضرائب من أصحاب المهن غير التجارية وعلى رأسهم المحامون والمحاسبون والأطباء والفنانون ... إلخ، والذين لا تتجاوز الحصيلة المقدرة منهم فى الموازنة الجديدة نحو 1.4 مليار جنيه، مقابل نحو 32.8 مليار من أصحاب الرواتب! تتوقع أن يقول البرلمان للحكومة إن مشكلتها الأساسية هى نقص الإيرادات، بينما هى تركز دوما على تخفيض المصروفات. الموازنة الجديدة تتضمن بالفعل تخفيض نسبة المصروفات إلى الناتج المحلى الإجمالى من 30.5% إلى 28.8%. تقشف بما لا يدع مجالا للشك، ومع ذلك فإن عجز الموازنة مستمر والاستدانة مستمرة، لأن نسبة الإيرادات إلى الناتج المحلى الإجمالى قد تراجعت هى الأخرى من 22% إلى 19.4%. تتوقع وأتوقع معك أن يقول البرلمان للحكومة إن ضبط الإنفاق وقفل أبواب الهدر أمر ضروري، إلا أن مربط الفرس هو زيادة الإيرادات. لكن المفاجأة أن البرلمان قد انشغل بقضية مختلفة تماما تتمثل فى إيجاد مخرج كى تبدو الحكومة، على الورق، وقد استوفت الاستحقاقات الدستورية للإنفاق على الصحة والتعليم والبحث العلمي! فى الجولة الأولى ثار الجدل بشأن ما إذا كان يتعين الوفاء بتلك الاستحقاقات كنسبة من الناتج القومى أم من الناتج المحلي. طبعا أعجب ما قيل فى هذا الشأن أنه لا يوجد شيء اسمه الناتج القومى الإجمالي. مصدر العجب أن الكتاب الإحصائى السنوى للحسابات القومية الذى يصدر عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء يضع تعريفا بالفعل للناتج القومى الإجمالي. كما أن الهيكل التنظيمى لوزارة التخطيط يضم إدارة إحصاءات الدخل والاستهلاك والناتج القومي. وطبعا على الصعيد العلمى أى طالب فى كلية الاقتصاد يتعلم وهو يدرس مادة المحاسبة القومية الفرق بين الناتج المحلى الإجمالي، والناتج القومى الإجمالى وطريقة حساب كل منهما. فى الحالة المصرية رقم الناتج القومى يزيد عادة على الناتج المحلي، وهو ما يعنى أن الاستحقاقات المطلوبة ستكون أكبر.. الحل إذن هو إنكار وجود مقياس للنشاط الاقتصادى اسمه الناتج القومى الإجمالى من أساسه، وتوجيه اللوم بأثر رجعى للجنة إعداد الدستور لأنها أشارت إليه، بل ولأنها جرؤت أصلا على تحديد نسب ملزمة للحكومة للإنفاق على الصحة والتعليم والبحث العلمي! .. ماشي.. بلاش القومي.. خلينا فى المحلي. الاستحقاقات التى نص عليها الدستور تمثل فى مجموعها 10% من الناتج المحلى الإجمالي، موزعة بين 3% للصحة، 6% للتعليم، 1% للبحث العلمي. الاعتمادات المقررة فى الموازنة كانت أبعد ما تكون عن الوفاء بتلك الاستحقاقات... بالكاد تصل إلى 6% من الناتج المحلى الإجمالي. الحل الذى ابتدعته لجنة الخطة والموازنة بالبرلمان للخروج من هذه المعضلة هو ببساطة إعادة تبويب بعض بنود الموازنة.. وإيه المشكلة الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا. صحيح أن وثائق الموازنة تتضمن تعريفات محددة لكل من قطاع الصحة وقطاع التعليم وسائر قطاعات الاقتصاد المصرى وتحدد الأجهزة التابعة لكل قطاع، ولكن ما المشكلة فى أن نقوم بإعادة التبويب ونستلف جزءا من هذا القطاع أو ذاك ونضيفه للصحة والتعليم والبحث العلمي؟ طبقا للمعلومات المتاحة حتى الآن، إبداع البرلمان تضمن إضافة موازنات المياه والصرف الصحى فضلا عن مستشفيات القوات المسلحة والشرطة إلى الإنفاق على الصحة. أما العجب العجاب فكان إضافة جزء من فوائد الدين المحلى إلى إجمالى الإنفاق على الصحة والتعليم والبحث العلمي! فى النهاية خرج علينا رئيس لجنة الخطة والموازنة يعلن بكل فخر أن إجمالى الإنفاق على الصحة قد تجاوز الاستحقاقات الدستورية المطلوبة وصار يمثل 3.1% من الناتج المحلى الإجمالي! البعض يتحدث عن أن الموازنة العامة بهذا الشكل بها عوار دستوري. نقابة الأطباء تصرخ من عدم وجود زيادة حقيقية فى مخصصات الإنفاق على الصحة. مراكز البحوث الزراعية تصرخ من تقليص المخصصات المقررة لها فى الموازنة.. لكن هذا كله غير مهم، فقد تم تستيف الورق! المسألة فى الواقع أكبر وأخطر كثيرا من موضوع الموازنة العامة. المسألة هى استخفاف البرلمان بنصوص الدستور والتعامل مع قضايا التشريع والرقابة بمنطق تستيف الورق. بجد.. عليه العوض ومنه العوض. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى