كشفت الثورة المصرية وبامتياز عن عالمين متناقضين: أحدهما قديم ورجعي, رموزه سطحيون وتقليديون, ومن ثم جاءت لتهدمه, والآخر حداثي متماس مع اللحظة الراهنة, وواع بأسرارها وتفاصيلها, موعود بقيم الحرية, والكرامة, والعدالة الإجتماعية, و قد جاءت لتدعمه, وتعززه. غير أن ما تفعله الثورات من خلخلة البني السائدة وتقويضها; من أجل صياغة بني جديدة, إنسانية الطابع, وديمقراطية بالأساس, لم يحدث مع الثورة المصرية علي الرغم من التضحيات الجسام التي قدمتها, والشهداء الأبرار الذين سالت دماؤهم الذكية من أجلها, وهذا يعود في رأيي إلي ثلاثة أمور مركزية: الأول: تغول النظام السابق في مؤسسات الدولة المصرية, والممثلة للبنية العميقة داخلها, وبما يعني أن النظام لم يسقط بعد في حقيقة الأمر, وأن كل ما حدث ولايزال يحدث الآن يبدو محاولة لاستبدال الرأس القديم بآخر جديد, قادم من رحم النظام السابق/ الحالي أيضا, و معبر عنه في آن واحد. أما الأمر الثاني: فيتمثل في انتهازية كثير من القوي السياسية, وتغليبها مصالحها الحزبية الضيقة, ونظرتها القاصرة التي حالت دون أن تطرح خطابا يرتقي إلي مستوي المسئولية السياسية الراهنة, والتي توجب عليها أن تصبح إحدي قاطرات التغيير للراهن من جهة, والمقاومة ضد إعادة إنتاج النظام القديم من جهة ثانية. الثالث: سعي ما يسمي ب(جماعات الإسلام السياسي) إلي تغليب منافعها الذاتية, وتحصينها, مفضلة مصلحة (الجماعة), علي مصلحة الأمة المصرية, وبما جعل كثيرا من القوي الثورية تعدها بمثابة الوجه الآخر للنظام, وربما يكشف عن هذا حالة الرفض العارم من قبل كثيرين لما آلت إليه نتيجة الانتخابات المصرية في جولتها الأولي, حيث أصبح الناس أمام خيارين كلاهما مر من وجهة نظر أطياف متعددة داخل الشعب المصري, ألا وهما: امتدادات نظام مبارك بفاشيته السياسية, والفاشية الدينية الراغبة في الهيمنة, والاستحواذ. لكن اللافت و هذا ما يدفعنا إلي التفاؤل أن قطار الثورة المصرية يصل دائما, وذلك علي الرغم من تعثره أحيانا, و بطئه في كثير من الأحايين, وبما يعني أن ما يسمي ب الوعي الممكن القادر علي الاستشراف والتخطي, قد حازته بالفعل قوي ثورية, و مدنية عديدة, لم تجد من يمثلها حتي الآن, غير أنها تملك بوصلتها الخاصة المبتعدة عن الأهواء, والصفقات, والنظر الضيق للعالم والأشياء. إن الصراع الدائر الآن علي السلطة في مصر, عبرت عنه و بوضوح نتائج الجولة الأولي, فثمة وعي ماضوي يطل بجناحيه, السياسي والديني, يطرح نفسه بوصفه سندا للثورة, ومحققا لأهدافها, غير أن الثورة ليست رؤية قديمة للعالم, أو نزوعا ماضويا في تمثله, لكنها نظرة إلي المستقبل, وصوغ جديد لما هو آت, وهذا ما يفتقده الطرفان بوصفهما شيئا من الماضي الذي يصر علي أن يتحكم في راهن أمة تتجه إلي الأمام. ولعل هذه المفارقة قد فطنت إليها الجماهير التي سبقت نخبتها المتكلسة, حين صوتت لصالح الثورة بما يوازي أكثر من 40% من جملة الأصوات. إن أسئلة ملحة تفرضها اللحظة الراهنة, والسؤال دوما بداية الوعي الخلاق, ولذا فما من شيء أجدي الآن من أن تتوحد قوي الثورة جميعها, كما ينبغي عليها من جهة أخري أن تكون فطنة, ويقظة, ومدركة أن من يحيا في الماضي لا يمكن أن يمثل رهانا علي المستقبل بأي حال من الأحوال, كما أن عليها أن تبلور رموزها الشعبية التي أنتجتها بالفعل عبر أصواتها في الانتخابات, علي أن ترتفع هذه الرموز الجديدة إلي مستوي المسئولية التاريخية الملقاة علي عاتقها, وأن تعلم أن ايمان الناس بها مشروط بانحيازها الدائم إلي قيم العدل, والحرية, والتقدم, والمواطنة, و إنسانية الإنسان, وبذا يصبح هذا التيار الجديد الذي ولدته الثورة المصرية رافدا مهما في الحياة السياسية من جهة, والأهم أنه بمثابة قاطرة التغيير الجذري في مسار الحياة المصرية بتنويعاتها المختلفة, بوصفه خيارا جديدا, وحداثيا, عينه علي المستقبل و رهانه الدائم علي وطن مختلف, ومغاير, يسع المصريين جمعيهم, ويقف بثبات ضد كل محاولات التبعية, أوالاستبداد السياسي أو الديني. المزيد من مقالات د.يسرى عبد الله