فى الوقت الذى تراجعت فيه السينما المصرية امام افلام المقاولات وموجة الفن الهابط ورحيل نجومها الكبار فى السنوات الماضية ظهرت الدراما التلفزيونية المصرية واستطاعت بدرجة ما ان تعوض خسائرنا فى السينما واستطاعت ان تضيف للقوى الناعمة المصرية فنا جديدا فتح آفاقا مضيئة لأعمال فنية جادة ورفيعة..ومع ظهور التلفزيون وانتشار الفضائيات تحولت الدراما الى سوق رائجة للإنتاج و التسويق والمنافسة..وبعد سنوات من احتكار الدراما المصرية للأسواق العربية كانت الدراما السورية منافسا خطيرا للإنتاج المصرى إلا ان الأعوام الأخيرة وما حدث فى سوريا غيبت تماما الإنتاج السورى وقد كان انتاجا رفيعا خاصة فى المسلسلات التاريخية .. وامام ما حدث فى العالم العربى فى الأعوام الأخيرة اصبح الإنتاج المصرى من الدراما هو السلعة الوحيدة فى الأسواق وهنا اتجهت كل الأنظار الينا ومع التوسع فى الإنتاج تدفقت رؤوس اموال عربية ضخمة حتى ان تكاليف انتاج المسلسلات هذا العام تجاوزت 2 مليار و200 مليون جنيه فى اقل التقديرات وهنا ارتفعت اسعار النجوم وبدأت منافسة ضارية بين الفضائيات انتاجا وتسويقا وعرضا فى السنوات الأخيرة اصبحت الدراما المصرية خاصة فى شهر رمضان هى الإنتاج الوحيد خاصة ان الدراما التركية والهندية لا تصلح للعرض فى الشهر الكريم..مع الوقت اصبحت الدراما المصرية جزءا من تراثنا الفنى خاصة مع نجوم وهبوا حياتهم لهذا الفن امثال محفوظ عبد الرحمن و اسامة انور عكاشة ووحيد حامد ومصطفى محرم ومحمد جلال عبد القوى.. على جانب آخر ومع تراجع الإنتاج السينمائى اتجه نجوم السينما المصرية الى الدراما التليفزيونية عادل إمام ومحمود عبد العزيز ويسرا وليلى علوى ويحيى الفخرانى ومنى زكى والهام شاهين وكان هذا مكسبا للدراما التليفزيونية من حيث الإنتشار والتأثير على المستوى العربى.. لاشك ان الدراما التليفزيونية اصبحت الأن فى صدارة الإنتاج الفنى المصرى خاصة انها جمعت عددا من كبار المنتجين العرب والفضائيات العربية الذين دفعوا ارقاما غير مسبوقة للنجوم المصريين..ورغم كل الإيجابيات إلا ان التراجع فى مستوى الإنتاج من حيث القيمة الفنية كان واضحا فى السنوات الأخيرة حتى وصل هذا العام الى منطقة خطيرة تهدد مستقبل هذا الإنتاج امام السطحية وغياب الفكر والمعالجات الحقيقية للواقع المصرى والعربى ويمكن ان يقال ان الجرى وراء المال كان سببا كافيا لإفساد الكثير من الأعمال الفنية التى وصلت الى درجة من السوء لا يمكن السكوت عليها كما ان ضخامة الإنتاج كانت على حساب القيمة ومستوى الجودة. من حيث الموضوعات التى عالجتها مسلسلات هذا العام فى اكثر من 30 مسلسلا كانت هناك ثلاث قضايا رئيسية فى معظم المسلسلات وهى المخدرات والخيانة الزوجية والقتل ومع هذه الثلاثية لعنة المال التى افسدت كل شئ..هذه القضايا من حيث المبدأ لا احد ينكر اهميتها وخطورتها ولكن حين نجد الف مبرر للخيانة وحين تتحول الشاشات الى غرز للمخدرات ودور الإدمان والمصحات وحين يسمع الشباب اسماء المخدرات بكل انواعها وحين تنتشر على الشاشات فى وقت واحد انهار من الدم والقتل والعنف كل ليلة فماذا تفعل الأسرة المصرية امام الدم والخيانة والمخدرات.. ان الشىء الغريب ان هذه القضايا قتلت بحثا فى مسلسلات وافلام سابقة فى سنوات مضت ولم يعد فيها جديد غير اسماء مجموعة من المؤلفين لم تكتمل ادواتهم ثقافة وابداعا ولكن الهدف هو المشاهدة حتى ولو كانت على حساب قيم فنية وجمالية واخلاقية..اكثر من مسلسل يروج للخيانة الزوجية ويمنح الزوجة آلاف الأسباب والمبررات..واكثر من مسلسل يعالج قضايا الإدمان وقبل هذا كله ساحات من الدماء تملأ الشاشات كل ليلة. لا احد يعرف ماذا وراء هذه المسلسلات حيث لا فكر ولا رؤى, أن لكل عمل فنى رسالة ما وحين يتحول الى شىء عشوائى فهو يصبح شيئا سلبيا لا هدف له ولا غاية ولكن الملاحظ ان هناك مصادر تمويل غريبة للمسلسلات المصرية تدفع اموالا طائلة وليست حريصة على المستوى الفنى انها وقت ضائع وتسلية رخيصة وسطحية لا يقبلها أحد .. ان الأجيال الجديدة لا ينقصها الوقت الضائع لأن كل اوقاتها ضائعة ولا تنقصها التسلية وهى تعانى من السطحية فى كل شىء..فلماذا كل هذه الجرعات المكثفة من الدم والمخدرات والعلاقات المريضة والمشبوهة..بجانب هذا نحن امام نصوص لم يقرأها احد خاصة ان الرقابة فى واد آخر فكم من الكوارث الأخلاقية والسلوكية التى تتسلل الى البيوت كل ليلة ولا حياة لمن تنادى.. الأخطر من ذلك كله ان الدراما التلفزيونية تدفع الآن بأغلى ما بقى لدينا من النجوم الكبار واخشى ان تحترق هذه الأسماء امام سطوة المال التى افسدت كل شىء فى حياتنا..نحن امام مسلسلات افتقدت كل القيم الفنية فى مستوى الحوار ولغته وما يحركه فى عقل الإنسان وفكره..هناك اسماء جديدة واعدة من كتاب الدراما ولكنها لم تنضج بعد ولم تجد يدا تساندها وتقف معها وتقيم انتاجها. لا يمكن ان نتجاهل كارثة الإعلانات وهى السبب فى كل ما حدث من تشوهات فى عالم الدراما انها السباق المحموم بين الفضائيات الآن وامام المنافسة الشديدة من يحصل على إعلانات اكثر هبط مستوى الإعلان وافسد على الناس متعة المشاهدة وجلس كل واحد يتابع الإعلانات حيث يظهر احيانا مشهد من مسلسل او نجم من النجوم ولا تستطيع الآن ان تشاهد عشر دقائق كاملة من مسلسل ما لأن الإعلانات تطاردك طوال الوقت ومع تكرار الممثلين وظهورهم فى اكثر من مسلسل يمكن ان تجمع اكثر من مسلسل فى مشهد واحد وانت وحظك..هناك ايضا خطيئة كبرى ارتكبتها صناعة الإعلان وهى تشويه الأغانى القديمة وتحويلها الى إعلانات فى كلمات هابطة واسلوب ردئ اساء لأشياء جميلة عاشت فى وجداننا زمنا طويلا.. الأغرب من ذلك هو سرقة الأعمال الأجنبية وتمصيرها سواء فى النصوص الدرامية او الإعلانات دون الإشارة الى ذلك من قريب او بعيد ولن يكون غريبا ان نجد قضايا واتهامات لنا فى الفترة القادمة فى محاكم خارجية بتهمة الاعتداء على ابداعات الآخرين هناك اكثر من مسلسل واكثر من إعلان مسروق دون الإشارة الى مصدره الحقيقى. نأتى بعد ذلك الى الكارثة الأكبر وهى برامج المقالب السخيفة والساذجة ولن يكون غريبا ان يسقط احد ضحاياها مصابا بأزمة قلبية..لقد اشفقت على نجوم وفنانين كبار اعرف انهم يعانون امراضا خطيرة وقد تعرضوا لضغوط نفسية وعصبية يمكن ان تودى بحياتهم والسؤال ما هو الهدف من مثل هذه المقالب..هل هى الإعلانات هل هى نسبة المشاهدة هل هى إضحاك المشاهدين ام السخرية من الضيف وإهانته والتنكيل به..سوف يقول البعض انها تدفع مبالغ مالية مذهلة وصلت فى بعض الحلقات الى مليون جنيه للضيف وان الضيف يقبل ذلك ويعرف طبيعة البرنامج فلا لوم على احد.. اليس فى ذلك إهانة للفن المصرى ورموزه امام سطوة المال. فى هذه البرامج لعب بالنار وهذا شىء لا يجوز امام الأطفال فما اسهل ان يحاول طفل ما تقليد البرنامج فيحرق نفسه وبيته واسرته..فى هذه البرامج حيوانات مفترسة رغم السذاجة فى الحرائق او الحيوانات إلا انها برامج سطحية تشجع على التخلف..هناك برنامج يسخر من داعش ويقدم فقرات تشبه العنف الذى تمارسه الجماعة الإرهابية ولكنه عرض ساذج..كان ينبغى بدلا من هذه المقالب التى تنفق عليها الفضائيات مئات الملايين ان نشاهد مسلسلا حقيقيا يتناول الإرهاب فى العالم العربى ولا اعتقد ان هناك كاميرا عربية ذهبت الى المعارك فى سوريا او العراق او ليبيا او اليمن لا اعتقد ان الإعلام العربى اقترب من قضية الإرهاب وحاول ان يبحث عن اسبابها ويتتبع جرائمها.. هناك انفصال كامل بين الإعلام العربى والقضايا الحقيقية التى تعيشها الشعوب العربية لقد كان الإعلام الأجنبى يتابع المعارك فى سورياوالعراق وكانت الفضائيات الغربية تنقل الأحداث ومازالت من وجهة نظر غربية.. شىء غريب ان نغرق اطفالنا فى مقالب سخيفة بين النيران والحيوانات المفترسة والقصص السخيفة ثم نتساءل لماذا انتشر الإرهاب وتخلف العقل العربى مادمنا نعيش بهذه الصورة المخجلة فكرا وسلوكا وفنونا. هل يعقل ان تكون هناك اربع دول عربية تحترق ولا تجد لها مجالا على الشاشات العربية بينما هناك برامج ومسلسلات ومسابقات وإعلانات جميعها تشارك بقوة فى تسطيح العقل العربى وتشويه الأجيال الجديدة فى الفكر والسلوك. لاشك اننا هذا العام امام انتاج ضخم واعداد كبيرة من المسلسلات والبرامج ونخبة من رموز الفن الكبار وتلال من الأموال تدفقت طوال ليالى الشهر الكريم ولكن غابت القيمة.. واختفت الرسالة..وسقط الهدف وقبل هذا كله افتقدنا الضمير.. ان الفن بلا رسالة..تجارة خاسرة..والمال بلا مسئولية مال ضائع..وقبل هذا كله فإن الضمير حين يغيب تتوارى كل الأشياء الجميلة وتسقط قدسية القيم وهى اغلى ما ملك الإنسان عبر تاريخه. هناك وسائل كثيرة يمكن ان نجمع منها المال وهناك طرق كثيرة يمكن ان تجمع ملايين المشاهدين على الشاشات ولكن حين يصبح الفن مجرد وسيلة لجمع المال فإنه يخسر الغاية والهدف ومن الظلم للفنانين الكبار ان يبذلوا الجهد والوقت والعمر امام اعمال لن تعيش ماذا سيبقى من برامج المقالب غير صراخ ودموع الفنانين..وماذا سيبقى من مسلسلات المخدرات غير المزيد من اعداد المدمنين..وماذا سيبقى من مشاهد الخيانة غير مشاعر الشك والإحباط والذكريات السيئة. لاشك ان هناك اموالا كثيرة انفقتها شركات الإنتاج على المسلسلات والإعلانات والنجوم ولكنها مال ضائع لأنها لم تترك شيئا فى عقول المشاهدين غير المزيد من الفوضى والصخب والضجيج وحرمت الناس من قضاء وقت ممتع فى رحاب الشهر الكريم.. ويبقى عندى سؤال أخير هل هذه هى مصر التى شاهدناها على الشاشات في شهر رمضان .. مصر القتل والدم والفوضى والدعارة والمخدرات والإدمان والعلاقات المشبوهة .. ياناس .. اتقوا الله في هذا البلد. ..ويبقى الشعر وعَلمتَنَا العِشْقَ قبلَ الأوَانْ فَلمَّا كَبِرْنَا..ودَارَ الزَّمانْ تبرَّأتَ منَّا..وأصبَحْتَ تنْسى فَلم نَرَ فِى العشْق غير الهَوانْ عَشِقْناك يا نيلُ عمرًا جميلا عَشِقْناك خَوْفًا..وَليْلا ًطويلا وهَبْنَاكَ يَومًا قلوبًا بَريئَهْ فَهلْ كانَ عِشْقُكَ بعضَ الخَطِيئهْ ؟! طُيوركَ ماتتْ .. ولم يبقَ شىءٌ على شاِطئَيْكَ سِوَى الصَّمتِ..والخوفِ..والذكرياتْ أسِافرُ عنكَ فأغُدو طَلِيقا .. ويسقط ُ قيْدِى وأرجعُ فِيكَ أرَى العُمرَ قبرًا ويصْبحُ صَوْتِى بقايَا رُفاتْ طيوركَ ماتَتْ .. ولم يبقَ فِى العشِّ غيرُ الضحَّايا رمادٌ منَ الصُّبح..بعضُ الصِّغارْ جَمعتَ الخفافِيشَ فِى شَاطِئيْكَ وماتَ على العين ِ.. ضوءُ النَّهارْ ظلامٌ طويلٌ على ضِفتيكَ وكلُّ مياهكَ صارتْ دماءَ فكيفَ سَنشَربُ منكَ الدِّماءْ ..؟ تُرى مَنْ نعاتبُ يا نيلُ ؟ قُلْ لِى .. نعاتب فيكَ زمانًا حزينًا .. منحناهُ عمرًا..ولمْ يُعطِ شيئًا.. وهل ينجبُ الحزنُ غير الضياعْ تُرى هل نعاتب حلمًا طريدًا .؟ تحطم بين صخور المحال ِ.. وأصبح حلما ذبيح الشراع تُرى هل نعاتبُ صبحًا بريئًا .. تشردَ بين دروبِ الحياة ِ وأصبحَ صبحًا لقيط َ الشعاعْ ؟ تُرى هل نعاتبُ وجهًا قديمًا توارى مع القهر خِلف الظلام ِ فأصبح سيفًا كسيحَ الذراعْ ؟ تُرى من نعاتب يا نيل ؟ قُلْ لِى .. ولم يَبق فى العمر الا القليلْ حملناك فى العْين حباتِ ضوءٍ وبين الضلوع ِ مواويلَ عشق .. وأطيارَ صبح تناجى الأصيلْ فإن ضاعَ وجهىَ بين الزحام ِ وبعثرتُ عمرى فى كل ِ أرض . وصرت ُ مشاعًا..فأنتَ الدليلْ تُرى مَنْ نعاتبُ يا نيلُ ؟..قُلْ لِى .. وما عادَ فِى العمْر وقت ٌ لنعشَقَ غيرَكَ..أنت َالرَّجاءْ أنعشَقٌ غيرَكْ ..؟ وكيف ؟.. وعشقُكَ فينا دِماءْ تروحُ وتغُدو بِغير انتهاءْ أسافرُ عَنْكَ فألمحُ وجْهَكَ فِى كلِّ شىءٍ فيغدُو الفناراتِ..يغدُو المطاراتِ يغدُو المقاهِى .. يسدُّ أمامِىَ كلَّ الطُّرق وأرجعُ يا نيلُ كىْ أحْترقْ وأهربُ حينًا فأصبحُ فى الأرض ِطيفًا هزيلا وأصرخ فى النَّاس..أجْرى إليهم وأرفَعُ رأسِى لأبدُو مَعَكْ فأصْبحُ شيئًا كبيرًا..كبيرًا طويناكَ يا نيلُ بينَ القُلوب وفينَا تَعِيشُ..ولا نَسْمُعُكْ تمزِّقُ فينَا .. وتدركُ أنك أشعَلْتَ نارًا وأنك تحرق فى أضلُعِكْ تعربدُ فينا .. وتدْركُ أن دمَانا تسيلُ .. وليسَتْ دِمَانا سِوى أدمُعِكْ تركتَ الخفافيشَ يا نيلُ تلْهُو وتعْبثُ كالموتِ فى مَضجَعِكْ وأصبحتَ تحيَا بصمت ِ القبور وصوتِى تكسَّر فِى مسمَعِكْ لقْد غبتَ عنَّا زمانَّا طويلا ً فقُلْ لى بربك منْ يرجعُكْ؟ فعشقُكَ ذنبٌ .. وهجرُك ذنبٌ أسافرُ عنكَ .. وقلْبى مَعَكْ
قصيدة «اسافر منك وقلبى معك» سنة 1986 لمزيد من مقالات فاروق جويدة