ما هو موقع الجيش في أي مجتمع من المجتمعات؟ ان التاريخ يظهر لنا المكانة الرفيعة التي احتلتها الجيوش في تاريخ الأمم منذ عصور ما قبل التاريخ، وقد سجل تاريخ مصر القديم انتصارات جيش رمسيس الثاني في معركة قادش عام 1274 قبل الميلاد باعتبارها من أكبر إنجازات ذلك الحاكم الفذ الذي بني الحضارة وشيد المعابد، وبعد رمسيس بألف عام وجدنا أول أباطرة الصين بعد توحيدها كين شي هوانج لا ينتقل الي العالم الآخر إلا وقد وضع في مقبرته جيشا كاملا من أشكال الجنود المصنوعة من الفخار، ثم جاء الرومان فخلدوا انتصارات جيوشهم في أدبيات عسكرية ثرية، وابدعوا في بناء «أقواص» النصر والأعمدة الشاهقة التي سجلوا عليها انتصاراتهم للتاريخ. ويعتقد البعض أن تقدم الأمم، وتطور أنظمتها السياسية، يتناسب عكسيا مع الحجم الذي يحتله الجيش في المجتمع، وأن الأنظمة الديمقراطية المتقدمة لا يكون للقوات المسلحة وجود يذكر في حياة الناس فيها، بينما اضطلاع الجيش بدور كبير في حياة الناس يدل علي أن الحياة السياسية لم تنضج بعد، فهل هذا صحيح؟ إن أمامي نتائج استطلاع للرأي أجراه مركز «جالوب» الذي يعتبر أكبر مراكز استطلاعات الرأي في الولاياتالمتحدة، حول مدي ثقة الشعب الأمريكي في مؤسسات الدولة المختلفة، وذلك بالمقارنة لما كانت عليه تلك الثقة قبل عشر سنوات، وقد جاءت نتيجة هذا الاستطلاع، الذي يعتبر من أهم الاستطلاعات التي أجراها المركز في السنوات الأخيرة، لتؤكد حقيقة ربما كانت غائبة عن الكثيرين، وهي أن أكثر المؤسسات التي تتمتع بالثقة في نفس المواطن العادي هي الجيش، بل وأن هذه الثقة لم تتزعزع خلال السنوات العشر الأخيرة، مما يعني أن هذه الثقة ليست وليدة ظروف عابرة قد تتغير من عام الي آخر، وإنما هي من الثوابت التي لا تتغير مع تغير الظروف السياسية أو تبدل الإدارات الأمريكية. ففي الوقت الذي هبطت فيه ثقة الأمريكيين مثلا في الكونجرس من 19% عام 2006 الي 9% فقط عام 2016، فإن الثقة في الجيش ظلت ثابتة علي 73% طوال السنوات العشرة الأخيرة، أما المؤسسة التي تلي الجيش مباشرة في التمتع بثقة الناس في المجتمع الأمريكي فهي الشرطة التي حازت علي 56% من ثقة الجماهير هذا العام، بينما كانت نسبة من يثقون فيها عام 2006 هي 58%، في نفس الوقت تحظي الكنيسة والمؤسسات الدينية ب41% من الثقة بينما كانت نسبتها 52% في عام 2006، ويشير الاستطلاع الي أن مؤسسة الرئاسة ارتفعت نسبة الثقة بها من 33% عام 2006 الي 36% هذا العام، أما في مجال الصحافة والإعلام فقد هبطت نسبة من يثقون في الأخبار التلفزيونية من 31% عام 2006 الي 21% هذا العام، وهبطت نسبة من يثقون في الصحف من 30% عام 2006 الي 20% هذا العام. فماذا يعني كل هذا؟ أول المؤشرات تقول إن المجتمع الأمريكي رغم نظامه الديمقراطي انما يضع المؤسسة العسكرية في مرتبة خاصة لا يتطرق اليها الشك، ولا تتذبذب ثقته فيها في ظل مختلف الإدارات السياسية، وتزيد أهمية هذا الأمر إذا تذكرنا أنه في عام 2006 كانت الولاياتالمتحدة تحت حكم جمهوري يختلف تماما عن حكمها الديمقراطي الحالي، ونعني بذلك إدارة الرئيس جورج بوش الابن الذي كان في فترة ولايته الثانية في ذلك العام، وكانت هناك نقمة عامة علي مختلف مؤسسات الحكم في عهده، بسبب حرب العراق، وبسبب حالة الركود الاقتصادي التي شهدتها البلاد في ذلك الوقت، ومن المعروف أن التقييم العام لمختلف الإدارات الأمريكية يضع إدارة بوش الابن في أسفل قائمة الرؤساء الأمريكيين. وهنا تجدر الإشارة إلي أن أحد أسباب غضب الشعب الأمريكي من سياسات بوش، وهي حرب العراق، تتصل مباشرة بالمؤسسة العسكرية التي مع ذلك لم تتغير ثقة الشعب فيها رغم قيامها بعملية غزو العراق التي يعتبرها الأمريكيون الآن نقطة سوداء في التاريخ الأمريكي، وهذا يعني أن وعي الشعب الأمريكي جعله يفصل بين الثقة التي يكنها لجيش بلاده وما قد يقوم به ذلك الجيش من سياسات تقررها الإدارة السياسية، وهو ما يجعل الجيش في الولاياتالمتحدة يتمتع بمكانة لا علاقة لها بالتقلبات السياسية ولا تتدخل الأهواء الحزبية للأمريكيين في نسبة الثقة التي يولونها للجيش. كما تشير نتائج هذا الاستطلاع المهم الي أن المكانة الخاصة التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية في أي مجتمع من المجتمعات لا تتصل من قريب أو بعيد بما اذا كان ذلك المجتمع ديموقراطيا أو غير ذلك، فالبعض يضع النظام السياسي في الولاياتالمتحدة في أعلي قائمة الدول الديمقراطية في العالم، ومع ذلك فقد وجدنا ثقة الشعب الأمريكي في قواته المسلحة تصل الي أعلي الدرجات بين جميع مؤسسات الدولة، بينما نسبة الثقة في المجلس النيابي (الكونجرس) الذي هو ساحة العمل السياسي الكبري، هي الأقل بين نسب الثقة التي تحظي بها بقية مؤسسات الدولة، أي أن الشعب الأمريكي لا يثق في الحياة السياسية ( الكونجرس) بقدر ما يثق في قواته المسلحة (الجيش)، ولو أن هذه النتيجة لم تكن في الولاياتالمتحدة، وانما في إحدي دول العالم الثالث التي لا تتمتع بنظام ديمقراطي، لاتخذت علي الفور دليلا من بعض من يأخذون الأمور بسطحية، علي تخلف النظام السياسي لهذه الدولة. كما تشير نتائج الاستطلاع الي هبوط الثقة ولو قليلا في النظام القضائي الأمريكي، فبينما تتمتع المحكمة العليا U S Supreme Court المشابهة عندنا للمحكمة الدستورية العليا (مع بعض الاختلافات) بنسبة ثقة 36% بالمقارنة ب40% عام 2006، نجد الثقة في النظام القضائي الجنائي لا تتخطي 23% بينما كانت 25% عام 2006، وهي في جميع الأحوال نسبة ثقة ضعيفة للغاية في دولة مؤسسات تجل القضاء وتضمن استقلاليته، وهي مرة أخري يمكن أن تؤخذ في دولة نامية دليلا علي ضعف النظام القضائي في تلك الدولة. وتبقي أخيرا تلك الثقة العالية نسبيا التي تتمتع بها الكنيسة في المجتمع الأمريكي وهي 52% عام 2006 و41% هذا العام والتي تؤكد أن الايمان بالدين ليس من خصائص المجتمعات النامية وحدها. لقد حاولت تحليل نتائج هذا الاستطلاع المهم ودلائله فيما يتعلق بالمجتمع الأمريكي، لكن يبقي عليك أيها القارئ أن تستخلص النتائج التي تنطبق علي مجتمعنا نحن بعيدا عن سفسطائية بعض المتحذلقين الجاهلين بأوضاع العالم الخارجي. لمزيد من مقالات محمد سلماوي