ذات صباح عندما استيقظ من نومه هلت عليه الشهرة. فقد نشر رواية عن قصة حب, انتهت بانتحار الفتي العاشق. ذلك أن القراء أقبلوا إقبالا عظيما علي رواية آلام الفتي فرتر للكاتب والشاعر الألماني جوهان جوته, التي صدرت عام1774. ولم يكد جوته ينعم بالشهرة حتي انقلبت إلي ما يشبه النقمة. فقد كان تأثير الرواية علي الشباب في ألمانيا وفرنسا خاصة, وأوروبا عامة, طاغيا وغريبا. فقد اندفع عدد منهم إلي الانتحار. وهذه واقعة تاريخية لا لبس فيها ولا غلو. وانهال نفر من المثقفين والمصلحين الاجتماعيين علي جوته نقدا وسبا. واعتبروه مسئولا عن سرادقات العزاء التي أقيمت في البلاد. ولم يجد ما يصد به تلك الانتقادات سوي قوله.. إنني لم ارتكب إثما, ولم اختلق مرضا, وإنما وصفت مرضا شائعا. أي مرض شائع ذاك الذي تحدث عنه؟ لم يفصح جوته ولم يحدد. غير أن المؤرخين والدارسين لأوضاع المجتمعات الأوروبية منذ نهاية القرن الثامن عشر أشاروا إلي حالة من الاضطراب السياسي والاجتماعي كانت سائدة.. وقالوا إنها كانت مقدمة لثورات هزت تلك المجتمعات.. وأن حالات الانتحار لم تكن سوي انذارات. ويقول الراوي.. لست أدري لماذا استدعت الذاكرة رواية آلام الفتي فرتر بأحزانها وضحاياها, بينما كنت أقرأ مقالا للكاتب واستاذ الاقتصاد الأمريكي بول كروجمان الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد, عن الأزمة الاقتصادية العاتية التي تعاني منها أوروبا. والمقال مثير للفزع. ويحذر من أن قادة أوروبا إذا استمروا في السياسات الفاشلة التي يتصدون بها للأزمة, فسوف يدفعون القارة إلي السقوط, ومن ثم يدفع العالم بأسره الثمن. ومعني هذا أننا في منطقة الشرق الأوسط التي تعج بالأزمات مكتوب علينا شئنا أم أبينا, أن ندفع ثمن سياسات فاشلة داخلية وخارجية. {{{ والمثير للدهشة أن بول كروجمان يستهل مقاله بالقلق من ظاهرة تتفشي في أوروبا, وهي الانتحار بين الشباب تحت وطأة الأزمة, خاصة البطالة. والخطير أن معدل البطالة بين الشباب في إسبانيا مثلا يبلغ نحو خمسين في المائة. ناهيك عن اليونان التي تغرق في دوامة الأزمة دون أن تمد لها الدول الأوروبية الكبري طوقا للنجاة. وذرا للرماد في العيون يأتي طوق النجاة كالغربال لمن يوشك علي الغرق. فهو سياسات التقشف لسد عجز الموازنة. وهي تستهدف الحد من الانفاق الحكومي علي المشروعات والخدمات. والنتيجة أن تتضور الغالبية يأسا من تزايد البطالة, بينما تنعم القلة بالثروة والسلطة. هذه القلة الطفيلية أفرزها النظام الرأسمالي إبان جموحه منذ زمن الرئيس ريجان ومارجريت ثاتشر وحتي رئاسة جورج بوش الابن, وهي تنكر في صفاقة لا مثيل لها التجرية الأمريكية والأوروبية في وأد الأزمة الاقتصادية التي اندلعت في الثلاثينيات من القرن العشرين. وكان الانفاق العام هو السبيل لتحقيق الانعاش الاقتصادي. وهذا ما يشير إليه صفوة من خبراء الاقتصاد. وهذا ما يفطن إليه الرئيس الفرنسي الاشتراكي الجديد فرانسوا أولاند. فهو يدعو إلي زيادة الانفاق العام لتحفيز النمو.. فهل تميثل القلة المسيطرة علي البنوك والمال و الأعمال أم تناصبه العداء؟ {{{ وفي ظل هذه الأوضاع المتدهورة, يسعي في الطرقات جيل جديد لا تساور الغالبية منه هواجس الانتحار. إنه جيل يستبد به الغضب.. جيل احتلوا وول ستريت, حي المال والأعمال في أمريكا. وقد يعني هذا أن زمنا جديدا يوشك أن يبدأ, مثلما حدث منذ نهاية القرن الثامن عشر. هذا الزمن الآتي, زمن العدالة والديمقراطية.. قد يكون مخاضه صعبا وعسيرا.. ولكنه سيأتي.. وما عدا ذلك باطل وقبض الريح. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي