لماذا تتحول المنافسة بين الفريقين إلى توتر وتراشق و صراع واحتقان وصداع؟ كانت مباراة الأهلى والمصرى ممتعة ومثيرة ، وحافلة بالصراع والندية ، على اختلاف الاسلوبين . فالأهلى يمتلك الكرة أكثر ، ويهاجم أشرس ، بينما المصرى يدافع بتنظيم ويرد بهجوم مضاد وسريع . ومبكرا تأخر الأهلى وتقدم المصرى ، ثم ذهب المصرى وتوقف الأهلى . ثم تحرك الأهلى كى يلحق بالمصرى . ثم اقترب الأهلى.. وانتهت المباراة قبل أن يحقق التعادل .. وهذا الفيلم هو جوهر كرة القدم ، وهو الذى ينتج البهجة والترويح فى اللعبة .. أو يفترض أن يفعل ذلك .. لكن لماذا تتحول المنافسة بين أكبر فريقين فى مصر إلى صراع وصداع، وإلى عملية صناعة للتعصب وللتوتر والاحتقان الذى قد يصل إلى الكراهية ؟! العالم كله ليس بتلك النية الصافية التى تصنع البهجة من المنافسة ، فهناك حالات احتقان ومظاهر تعصب مجنونة . لكن فى المقابل هناك حالات منافسة شديدة وساخنة ، وقد تكون مغموسة فى السياسة أيضا ومع ذلك تنتهى بحالة بهجة . كما هى الحال فى العالم الآخر . فى كثيرمن الدول الأوروبية وفى السباق التقليدى بين ريال مدريدوبرشلونة . وأحيانا تخترع منافسة من أجل زيادة البهجة ، كما هو الحال بين ميسى ورونالدو .. إلا أن صناعة مثل تلك الحالة فى الكرة المصرية تسفر عن عداوات وكراهية ، بين المشجعين ، ومن حسن الحظ أن هذا لاينتقل إلى اللاعبين .. هزيمة الأهلى الأخيرة أمام المصرى ضيقت الفارق بين الفريقين الكبيرين، وهذا يعنى أن المسابقة أصبحت أقوى وأكثر إثارة، لكن العكس هو الصحيح . توترت الأعصاب . وخرجت التصريحات التى تقلل من كفاءة الفريقين ، وارتفعت درجة حرارة الاحتقان .. وفى السنوات الأخيرة وصل الصراع بين الأهلى والزمالك إلى أخطر مراحله, وبات التحزب تعصبا , وباتت المنافسة غضبا وصراعا واحتقانا وتوترا وتراشقا على مواقع التواصل الاجتماعى وتغيرت العديد من المفاهيم الرياضية الجميلة. نعم .. تغيرت اللعبة , وتغير الزمن, وتغيرت النفوس! بينما المفروض أنه كلما اشتدت المنافسة زادت درجة المتعة بكرة القدم .. ولذلك مع اشتداد المنافسة كان الموسم المنتهى للكرة الإنجليزية رائعا وقويا ، حين دخل دائرة القمة فرق ليستر سيتى وأرسنال وتوتنهام ومانشستر سيتى ومانشستر يونايتد .. وشهدت مسابقة الدورى الإنجليزى ظاهرة فريدة، وهى أن ليستر سيتى أصبح الفريق الثانى لمشجعى الفرق الإنجليزية بعد فريقهم .. فهل يمكن أن يحدث ذلك فى الكرة المصرية من باب الإعجاب والتشجيع ؟! فى كرة القدم دراما .. وفى يوم من الأيام كتب الأستاذ صلاح حافظ رئيس تحرير روز اليوسف مقالا عن الأهلى والزمالك وقال فيه : " : دراما الأهلى والزمالك من صنع الجمهور. لا من صنع الناديين. والاهمية الخارقة التى تتمتع بها مباريات الفريقين ليس لها سبب رياضى مقنع، وانما هى شىء صنعه الجمهور ليمتع نفسه " .. هذا صحيح نسبيا .. فلأسباب رياضية وتاريخية أيضا ولدت المنافسة بين الأهلى والزمالك .. وأهم سبب رياضى هو القوة . وبمناسبة الدراما يقول أساتذة هذا الفن دائما : " الدراما القوية هى التى يتخاصم فيها خصمان على نفس القدر من القوة " .. لكن ظاهرة القطبية ، هى ظاهرة كونية وعالمية . فجماهير الكرة فى مصر وفى خارج مصر تميل دائما الى اقتصار المنافسة بين قطبين، وتكره أن تكون بين أقطاب متعددة .. وتتفاوتت حدة هذه الظاهرة من بلد إلى بلد، ومن مدينة إلى مدينة. ففى السعودية هناك النصر والهلال، وهما كبيرا العاصمة الرياض، لكن فى جدة نجد منافسة تقليدية بين الاتحاد والأهلى. وفى المنطقة الشرقية الاتفاق والشباب. وظاهرة الأهلى والزمالك موجودة فى الأردن بين الوحدات والفيصلى، وفى سوريا كانت المنافسة حتى وقت قريب بين فريقى الجيش والشرطة نفس الأمر يتكرر فى الكويت بين كاظمة والقادسية أما فى البحرين، فالقمة تكون بين الرفاع الغربى والمحرق. و فى السودان، هناك أهلى وزمالك فعلا، أو الهلال والمريخ، ويعتبر الهلال هو أهلى السودان، أما المريخ فهو زمالك السودان، وفى لبنان يعتبر فريقا الأنصار والنجمة الأخوة الأعداء وهما أهل القمة هناك. ومثل الكثير من مباريات القمة فى الوطن العربى، تشهد مباراة الأنصار والنجمة ترتيبات أمنية خاصة بسبب شدة التنافس.. والقطبية الرياضية، أو ظاهرة الأهلى والزمالك موجودة أيضا فى اليمن، وتعبير القطبية أنسبه للزميل الصحفى القديم عبدالله الصعفانى الذى كتب مقالا فى جريدة الرياضية السعودية عن القطبية وعن الكرة فى اليمن قبل أن تشتعل فيه لعبة الحرب ، قال فيه : " من الواضح أن القطبية فى عالمنا تحولت إلى مشكلة تعكس ظلالها على كل شىء ، فكلنا يعرف كيف يهتز الشارع الرياضى فى مصر، وتلتهب البيوت والقهاوى عندما يلعب الأهلى والزمالك . . وعندنا فى اليمن تلتهب الأجواء بين الوحدة والأهلى . وعندما يلعبان مباراة تبرز العناوين والتحليلات التى تقول أن المباراة تساوى بطولة بذاتها، وأن التقليدية فى اللقاء تتطلب حكاما على مستوى عال، ورقابة اتحادية على درجة عالية، ومتابعة أمنية مركزة، ولا يبقى إلا المطالبة بنوعية خاصة من الجمهور؟" وفى تونس الصراع والقطبية, والخصومة بين الترجى والافريقى، وهى تصل الى حد أن جماهير الترجى قد تساند أى فريق خارجى وهو يلعب ضد الافريقى فى تونس. ونفس الأمر يسير على جماهير الافريقى.. إن تلك الدراما لايصنعها اللاعبون، وانما المتفرجون.. والإعلاميون .. وهؤلاء المتفرجون والإعلاميون لا يلعبون أصلا ، ولكن المتفرجين يدفعون لكى يلعب الأهلى والزمالك وهم جالسون. والإعلاميون يكتبون ويتحدثون عن المنافسة لكى تخيم الإثارة على اللعبة ويكون مايكتبونه مقروءا ومشهودا . وهكذا نحن أمام معادلة تغيرت عن الأزمنة القديمة ، فالجمهور هو الذى يدفع ، ويتابع. والإعلام هو الذى يكتب ويتحدث.. وكلاهما، الجمهور والإعلام يخرج فى النهاية الخصومة . أو على وجه الدقة باتت المعادلة مختلفة أكثر الآن ولعلها انتشرت فى شتى المجالات : الإعلام يعرض مايريده وماينتظره الجمهور ..! إن القطبية مع المنافسة القوية ، والمهارات المرتفعة، والصراع النظيف على البساط الأخضر ، يضفى على كرة القدم إثارة ومتعة . فلاشىء اسمه أن "الكورة أجوان " وإنما الكرة صراع ، فكلما علت درجته يرتفع مستوى اللقاء . وهو أمر يسير على البطولات والمباريات الكبرى وتراه فى كأس الأمم الأوروبية الحالية .. وصناعة أو إختلاق الصراع أحيانا يكون من أجل المزيد من الترويج للعبة ولمن يمتهنها ، سواء لاعبا أو مدربا أو إعلاميا .. فالإعلام صنع صراعا مخصوصا بين قطبين لاعبين وهما كريستيانو رونالدو وليونيل ميسى .. ومنذ فترة طرحت جريدة الميرور البريطانية سؤالا لطيفا : من أكثر أهمية لفريقه .. لريال مدريدولبرشلونة رونالدو أم ميسى ؟ وأجابت الصحيفة بأرقام وأهداف ومساعدات رونالدو وميسى وفى النهاية جاء أن ميسى أهم لفريقه بنسبة 54 % مقابل 32 % قالوا إن رونالدو أهم لفريقه .. ولم يعجب ذلك أنصار ريال مدريد ورونالدو.. وكلاهما مهم لفريقه، وإن اختلف الدور . ميسى هداف وصانع ألعاب ، ومحيط عمله فى منتصف ملعب المنافس.. فهو لاعب وسط أصلا .. ويعمل وسط المجموعة . بينما رونالدو هداف بالدرجة الأولى ومحيط عمله فى الثلث الأخير من الملعب وتأثيره كبير حتى لو كان وحده . ميسى يتلاعب بالكرة فى أضيق المساحات . وهو رسام . بينما رونالدو يتلاعب بالكرة فى أوسع المساحات . وهو مطرقة .. وميسى موهبته فطرية، ولد بها فى قدميه ، بينما رونالدو صنع موهبته، وجعل سرعته وعضلاته سلاحه جوهرة الكرة البرازيلية السابق بيليه له رأى آخر وقاطع فى تحديد الأفضل على الإطلاق صرح به لصحيفة الديلى ميل أثناء حضوره مباريات كأس الأمم الأوروبية الحالية ، فقال : " كريستيانو رونالدو أفضل من ليونيل ميسى " .. وشرح بيليه طريقة لعب ميسى ، وطريقة لعب رونالدو .. فقال : " هذا زمن ميسى ورنالدو فقط . فلا ثالث بينهما . أو خلفهما . وميسى يلعب فى وسط الملعب ويصنع اللعب ويمرر لزملائه . ورونالدو يلعب فى مقدمة الملعب ويهاجم ويتلقى الكرة من زملائه ويحسم المباريات لفريقه .. وهذا الحسم يمنحه درجة أفضل من ميسى ! " فى جميع الأحوال هذا الاهتمام العالمى بالمقارنة بين النجمين ، أو بين برشلونة وريال مدريد . أو بين قطبين ، هو إنتاج للبهجة والإثارة بصناعة المنافسة ، داخل الملعب وخارج الملعب . واللاعبون والإعلاميون والفرق والأندية يشاركون فى عملية الإنتاج لمزيد من الشعبية والاهتمام والأموال .. ونحن لم نصل بعد إلى هذا المستوى، لم نفهم بعد على المستوى الجماهيرى أو الإعلامى جدوى و أهمية إنتاج البهجة من المنافسة التقليدية بين الأهلى والزمالك ولم نعرف مقارنة إيجابية وفنية مثلا بين رمضان صبحى وعمر جابر ، أو بين حسام غالى ، وبين شيكابالا فى أوج عطاء اللاعبين .. لم تجر أى مقارنات علمية وعميقة ودقيقة بين اللاعبين ، وإنما تجرى عمليات تشويه تنتج المزيد من الإحتقان . فمن الظواهر المؤسفة أن الدراما فى الكرة المصرية تتحرك فى إطار التقليل والسخرية من المنافس، والتفتيش عن أوجه النقص والسلبيات فى اللاعبين أو فى الفرق التى تتنافس .. بدلا من البحث عن عناصر قوته، وكيفية مواجهتها أو التسلح بقوة مماثلة .. ولن أتحدث عن الذين يجلسون فى مقاعد الإعلاميين وهم يشجعون ، أو متفرجون .. تحركهم انتماءات . وليست ضد الانتماء إطلاقا، ولكننا نشجب ونرفض منذ عهدنا بالمهنة أن يرى الإعلامى فريقا واحدا فى مباراة بين فريقين .. ويلعب بالنار ويركلها ويدفع بها إلى مقاعد المتفرجين والمشاهدين فى إنتظارهم بعد الفاصل .. إنها أزمة مجتمع .. وليست أزمة لعبة تسمى كرة القدم ! لمزيد من مقالات حسن المستكاوى